في قلب القاهرة الصاخبة، حيث لا تتوقف الحياة عن النبض وحيث تتجلى أحلام الملايين في كل طوبة تُبنى، يظل سوق العقارات في مصر قصة لا تمل من روايتها. قصة تجمع بين التحديات الكبرى والطلب الذي لا ينضب، مما يبقيه قطاعاً حيوياً ومتجدداً، كما لو أنه شريان اقتصادي لا يعرف الجمود. هذه هي خلاصة ما خرج به المهندس عمرو سليمان، أحد رواد التطوير العقاري في البلاد، في حديثه الأخير الذي ألقى الضوء على ملامح هذا السوق المعقد في برنامج “الحكاية” مع الإعلامي عمرو أديب.
لم يكن حديث سليمان مجرد استعراض لأرقام أو تحليلات جافة، بل كان بمثابة قراءة متعمقة لنبض السوق العقاري المصري، الذي، ورغم التحديات الكبيرة التي تفرضها الأوضاع الاقتصادية المتغيرة وارتفاع التكاليف بشكل مستمر، لا يزال يحتفظ بريقه كجاذب رئيسي للاستثمارات. الأمر لا يتعلق فقط بالربح المادي، بل يتعداه ليمس احتياجات أساسية ورغبات عميقة لدى شرائح متنوعة من المستهلكين والمستثمرين، وكأن العقار في مصر يحمل في طياته أكثر من مجرد جدران وأسقف.
فما الذي يدفع هذا الطلب المتواصل في ظل هذه الظروف؟ الحقيقة أن المشهد يتكون من أربع ركائز أساسية، كل منها يمثل قصة مستقلة في حد ذاتها. أولها، وهو الأقرب إلى قلوبنا، المواطن المصري العادي. هذا الشخص الذي يسعى جاهداً لتوفير مأوى آمن له ولأسرته، أو ربما يكون حلم حياته هو تأمين منزل لأبنائه، فكل واحد فينا – أو لأولاده – بيبحث عن حيطة وسقف، وده حق طبيعي لكل بني آدم. إنه الطلب الأساسي الناتج عن الزيادة السكانية المستمرة والحاجة الملحة للسكن اللائق.
أما الركيزة الثانية، فتتمثل في المستثمر المحلي، ذلك الشخص الذي يملك فائضاً من الأموال ويبحث عن وعاء آمن ومربح لحفظ قيمتها وتنميتها. العقار لطالما كان الملاذ الأول لمن يخشى تقلبات الأسواق الأخرى، فهو يُعد ملاذاً آمناً للمدخرات، وقادراً على حفظ قيمتها بل وتنميتها مع مرور الزمن، وكأنه صندوق استثماري صلب لا يتأثر بالهزات العابرة.
الركيزتان الثالثة والرابعة تتجاوزان حدود الوطن لتشمل المصريين المقيمين بالخارج، والأجانب الوافدين من دول الخليج وأوروبا. المصريون في المهجر، هؤلاء الذين لم تنقطع صلتهم ببلدهم، يمثلون جزءاً حيوياً من هذا الطلب. مع تحويلاتهم التي تقارب الـ 40 مليار دولار، يبحثون عن استثمار آمن وملموس في وطنهم الأم. الموضوع مش بس فلوس، دي كمان مشاعر وحنين للبلد، وعايزين يحطوا تحويشة العمر في حاجة مضمونة وقايمة قدام عينيهم. يرون في العقار وسيلة للحفاظ على قيمة أموالهم، ولربط أنفسهم بوطنهم، ولربما لتأمين مستقبل أبنائهم في مصر.
ولا ننسى الأجانب، وخاصة القادمين من دول الخليج وأوروبا، الذين يجدون في السوق العقاري المصري فرصاً استثمارية واعدة، أو بيتاً ثانياً يوفر لهم مناخاً جذاباً وأسعاراً تنافسية مقارنة ببلدانهم. هؤلاء يضيفون بعداً دولياً للسوق، مما يعزز من قوته وتنوعه.
لكن رحلة المطور العقاري، ده مش نزهة، ده ماراثون مليان عقبات وتحديات ضخمة. فالمهندس سليمان شدد على أن المطورين العقاريين يعملون تحت وطأة مخاطر جمة، لاسيما مع التكاليف المتزايدة للمواد الخام والأيدي العاملة، بالإضافة إلى ضغوط التضخم التي لا تتوقف. إنها عملية تتطلب تخطيطاً دقيقاً ورؤية مستقبلية، وقدرة على إدارة المخاطر ببراعة. فكل مشروع جديد يمثل تحدياً لوجستياً ومالياً كبيراً.
وفي ظل هذا المشهد، وجه سليمان تحذيراً بالغ الأهمية للمشترين، مؤكداً على ضرورة الحذر الشديد عند التعامل مع الشركات غير الموثوقة. يا ريت تاخد بالك كويس أوي وما تجريش ورا أي خصم مغري وخلاص. فالخصومات الجذابة التي تقدمها بعض الشركات قد تكون فخاً يعرض المشترين لمخاطر جسيمة، وقد يفقدون استثماراتهم أو يقعون ضحية لمشاريع غير مكتملة أو بجودة رديئة. الشفافية والثقة هما مفتاح الأمان في هذا السوق.
وعلى الرغم من وجود بدائل استثمارية مثل الذهب، الذي يُنظر إليه تقليدياً كملجأ آمن في أوقات عدم اليقين، إلا أن الاستثمار في العقارات لا يزال يحتفظ بجاذبيته الخاصة. هل العقار هو الكنز اللي لا يفنى؟ ولا الدهب هو الملاذ الآمن؟ سليمان يرى أن المقارنة ليست قطعية، فلكل منهما مزاياه. لكن العقار، وإن كان يتطلب تحليلاً دقيقاً للعرض والطلب وفهماً عميقاً لديناميكيات السوق، يبقى استثماراً ذا عائد مستقر وقيمة تزداد بمرور الوقت، خاصة إذا كان الاختيار مدروساً وبعيداً عن المغامرات غير المحسوبة.
في الختام، فإن نموذج السوق العقاري الحالي، كما أوضح المهندس سليمان، يعتمد بشكل جوهري على الشفافية والاستدامة. فالمطورون الجادون يبنون ليس فقط منشآت، بل يبنون ثقة ومستقبلاً. والمشترون يبحثون عن أكثر من مجرد أربعة جدران؛ إنهم يبحثون عن أمان، عن قيمة، عن حلم يتحقق. قطاع العقارات ليس مجرد أرقام ومبانٍ، بل هو مرآة تعكس أحلام الأفراد وطموحات الوطن، قصة استمرار وتطور تكتب فصولها كل يوم على أرض مصر. فهل سنرى هذا القطاع يواصل صموده ويزدهر ليحقق آمال الملايين في السكن والاستثمار؟ الأيام القادمة وحدها من تحمل الإجابة، لكن المؤشرات تدل على أن قصته لم تنته بعد.