أحلام عمالقة المال الرقمي… هل تبخرت؟

من منا لم يطمح ذات يوم أن يتحول إلى عملاق في عالم المال الرقمي؟ أن تمتلك شركتك أصولاً هائلة من العملات المشفرة، وأن يتضاعف سعر سهمك لمجرد أنك قررت السير على خطى رواد هذا المجال، مثل مايكل سايلور الذي حول “مايكروستراتيجي” إلى قوة لا يستهان بها في سوق البيتكوين. كانت تلك هي الحكايات التي أشعلت خيال المستثمرين، ودعونا نقول بصراحة، أغرت الكثيرين لدخول اللعبة. لكن يبدو أن بعض الشركات التي سلكت هذا المسار تجد نفسها اليوم في مفترق طرق غريب، تدفعها رياح السوق المعاكسة نحو قرارات قد تبدو متناقضة مع جوهر وجودها.

ففي حركة قد تبدو للوهلة الأولى مألوفة في أسواق الأسهم التقليدية، حيث تلجأ الشركات أحياناً لشراء أسهمها الخاصة لتعزيز قيمتها عندما تعتقد أنها مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية، نرى اليوم شركات “خزائن العملات المشفرة” المتعثرة تسارع لاتباع نفس النهج. يعني، بدل ما يشتروا بيتكوين وإيثيريوم زي الأول، بقوا بيشتروا أسهمهم اللي قيمتها نزلت. هذا التحول ليس مجرد تكتيك مالي عابر، بل هو مؤشر صارخ على تراجع موجة “خزانات العملات المشفرة” التي اجتاحت الأسواق هذا العام، محولة شركات من قطاعات مختلفة، مثل الألعاب الإلكترونية ومصنعي عربات الغولف، إلى لاعبين في ساحة العملات الرقمية. والآن، بعد أشهر قليلة من هذا التحول الجريء، تجد هذه الكيانات نفسها مضطرة لإعادة شراء أسهمها في محاولة يائسة لدعم قيمتها المتردية.

من هوس التقليد إلى صدمة الواقع

شهد هذا العام موجة عارمة من الشركات، بما في ذلك بعض الكيانات المدعومة من شخصيات سياسية بارزة، تتسارع لجمع الديون أو إصدار الأسهم، ثم تضخ تلك الأموال في شراء العملات المشفرة اللامعة مثل البيتكوين والإيثيريوم والسولانا. كان الهدف واضحاً: محاكاة النجاح الساحق الذي حققته شركة “مايكروستراتيجي” تحت قيادة مايكل سايلور، التي تجاوزت قيمتها السوقية 100 مليار دولار هذا العام بعد شروعها في شراء البيتكوين في عام 2020. فكرة بسيطة لكنها تبدو ساحرة: اشترِ عملات مشفرة، وتضاعف قيمة شركتك تلقائياً!

لكن الرياح يبدو أنها غيرت اتجاهها بقسوة. هل كان هذا الجنون مجرد فقاعة؟ سؤال يطرحه الكثيرون الآن. فمعظم الشركات التي انغمست في هذا التيار تجد نفسها اليوم إما خاسرة، أو أنها تبدو ككيانات “وهمية” حيث أن الدافع الوحيد وراء ارتفاع أسعار أسهمها هو الإيمان الغامض للمديرين التنفيذيين والمستثمرين بقيمة أصولهم الرقمية. وفي ظل هذه المخاوف المتزايدة من تشبع السوق، وبدء المستثمرين في التشكيك في نموذج أعمال “خزانات العملات المشفرة” برمته، لم يعد الأمر مجرد تراجعات عادية. آدم مورغان مكارثي، كبير محللي الأبحاث في شركة “كايكو” لتحليلات العملات المشفرة، لخص الوضع بعبارة قاسية: “ربما تكون هذه حشرجات الموت لبعض من هذه الشركات.”

قصص من قلب الأزمة: من التحول إلى الانهيار

تتوالى الأمثلة التي تؤكد هذه التحولات الدرامية. لنأخذ على سبيل المثال شركة “إيث زيلا”، التي كانت تُعرف سابقاً باسم “لايف ساينسيز 180” في مجال التكنولوجيا الحيوية. الشهر الماضي، غيرت اسمها وانتقلت لشراء رموز الإيثيريوم. لكن بدلاً من الصعود، هوت أسهمها بنسبة 76% عن ذروتها في أغسطس. الغريب في الأمر أن قيمة الشركة السوقية تُقدر حالياً بـ 416 مليون دولار، بينما تمتلك حوالي 460 مليون دولار من الإيثيريوم! يعني، قيمتها في السوق أقل من قيمة اللي معاها كاش. هذا التباين دفعها لجمع 80 مليون دولار كديون مضمونة بحيازاتها من الإيثيريوم لتمويل خطة إعادة شراء أسهم بقيمة 250 مليون دولار. مكاندرو روديسيل، الرئيس التنفيذي للشركة، لا يزال يعتبر إعادة شراء الأسهم “فرصة واعدة واستخداماً مجدياً لرأس المال”، لكن هل هو كذلك فعلاً؟

ولا يختلف الحال كثيراً مع “إمبيري ديجيتال”، الاسم الجديد لشركة “فولكون” التي كانت متخصصة في تصنيع المركبات الرياضية الكهربائية في تكساس. في يوليو الماضي، قررت الشركة التحول بالكامل لشراء البيتكوين، ما أدى إلى ارتفاع جنوني لسهمها بنسبة 380% في وقت قياسي. لكن هذا الارتفاع السريع سرعان ما تبدد، وتخلى السهم عن كل مكاسبه. والآن، لجأت الشركة إلى زيادة تسهيلات الدين وجمع 50 مليون دولار إضافية لتمويل عمليات إعادة شراء الأسهم، بينما قيمتها السوقية (378 مليون دولار) أدنى بكثير من قيمة البيتكوين التي تمتلكها (476 مليون دولار). مورغان مكارثي يرى في تكرار هذه العمليات “علامة على تشبع السوق”، مؤكداً أن الشركات تكافح للحفاظ على تقييماتها.

القائمة تطول وتشمل أيضاً شركة “شاربلينك غيمينغ” التي تمتلك رموز إيثر بقيمة 3.7 مليارات دولار لكن قيمتها السوقية تبلغ الآن 3.3 مليارات دولار، وقد أطلقت برنامج إعادة شراء بقيمة 1.5 مليار دولار. وحتى “تون استراتيجي”، صاحبة عملة “تون كوين” الخاصة بتيليجرام، شرعت في خطة إعادة شراء أسهم بقيمة 250 مليون دولار بعد أن هوت أسهمها بنسبة 75%. وحتى كبرى الشركات اليابانية في هذا المجال، “ميتا بلانيت”، تفكر في خطوة مماثلة إذا تراجعت قيمتها السوقية دون قيمة حيازاتها من البيتكوين.

وجهة نظر الخبراء: بيت من ورق؟

لكن الخبراء لا يرون في هذه التحركات مؤشراً إيجابياً على الإطلاق، بل يعتبرونها علامة فارقة على أن نموذج أعمال “خزانات العملات المشفرة” قد وصل إلى طريق مسدود. يقول إليوت تشون، الشريك في شركة “أركيتكت بارتنرز” الاستشارية: “لم تمضِ سوى ستة أشهر، بينما نحن نتحدث الآن بالفعل عن زوالها. نسبة ضئيلة جداً ستنجح.” ويضيف أن جمع الأموال لإعادة شراء الأسهم بدلاً من إنفاقها على الرموز “يتناقض” تماماً مع المفهوم الأساسي لخزانة العملات المشفرة. كأنك بنيت بيتاً من ورق، وتنتظر أن يصمد أمام أول عاصفة.

ففي حين أن إعادة شراء الأسهم تعد تكتيكاً مشروعاً للشركات التي تعتقد أن سهمها مقوم بأقل من قيمته، فإن نموذج أعمال خزانات العملات المشفرة بُني على فكرة أن قيمتها السوقية سترتفع بسرعة تفوق قيمة حيازاتها من العملات المشفرة. وبالنسبة للشركات التي تلجأ لعمليات إعادة الشراء هذه، فذلك يعني أن هذه الفكرة لم تعد تتحقق على الإطلاق. يرى مورغان مكارثي أن هذه الشركات “تحاول فقط كسب الوقت، والحفاظ على الوضع بقدر المستطاع، وتخفيف حدة الأمور حتى يتمكنوا من الاستفادة من موجة تالية من ارتفاع أسعار العملات المشفرة.” لكنه يحذر: “الكثير من هذه الشركات أشبه ببيت من ورق، وغالباً ما ستنهار بسرعة كبيرة.”

بصيص أمل أم إصرار عنيد؟

بين كل هذه التراجعات ومحاولات الشركات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لا يزال هناك من يتمسك بالرؤية الأصلية. أليكس سبيرو، محامي إيلون ماسك، والذي يرأس شركة لخزانة عملة “دوجكوين” المشفرة، قام الأسبوع الماضي بزيادة حيازاته من العملة الميمية من 500 مليون إلى 600 مليون دولار، متحدياً بذلك التيار العام. هل هو إيمان راسخ أم رهان على موجة صعود قادمة؟

في النهاية، ما الذي تخبرنا به هذه الظاهرة؟ هل هي نهاية الحلم أم مجرد مرحلة تصحيح مؤلمة ستفرز اللاعبين الحقيقيين من المتسلقين؟ ربما تكون رسالة واضحة للمستثمرين بأن التوهج لا يدوم، وأن التقليد الأعمى قد يقود إلى الهاوية. فبينما كان الجميع يركض خلف حلم الثراء السريع في عالم العملات المشفرة، يبدو أن الواقع المالي يدق ناقوس الخطر، مذكراً الجميع بأن بناء قيمة حقيقية يتطلب أكثر بكثير من مجرد تغيير الاسم وشراء عملات رقمية. ففي عالم المال، كما في الحياة، لكل صعود ثمن، ولكل تراجع درس.

Leave a Comment

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.