في عالمٍ تتراقص فيه ظلال الأزمات الاقتصادية على إيقاع التوترات الجيوسياسية المتصاعدة، وتتعالى فيه أصواتٌ كانت تتنبأ بانهيار وشيك لأنظمة اقتصادية كبرى، يخرج صوتٌ ثابتٌ من قلب الكرملين ليُعلن صمود سفينة الاقتصاد الروسي في وجه رياح عاتية وعواصف متتالية. لم تكن الكلمات مجرد تصريحات عابرة في نشرة إخبارية، بل كانت تأكيداً قوياً، يكاد يكون تحدياً صريحاً، على أن الحصن المالي لروسيا، رغم الضربات المتلاحقة والعزلة الدولية المفروضة، ما زال يقف شامخاً، محافظاً على توازنه واستقراره الكلي، وكأنه يقول للعالم: “يا جماعة، مش بالساهل توقعونا!”
هكذا، وبكل ثقة، أطلَّ المتحدث الرسمي باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، عبر شاشات شبكة “آر بي سي” الإخبارية، حاملاً رسالة واضحة لا لبس فيها. رسالةٌ تستهدف بشكل مباشر تلك التوقعات الغربية المتكررة التي طالما راهنت على سقوط الاقتصاد الروسي بفعل الحزمة تلو الأخرى من العقوبات المفروضة. فمنذ بدء ما تُعرف بـ “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، توالت قرارات العزل الاقتصادي، وقطع شرايين التجارة الدولية، وتجميد الأصول، ووقف التعاملات المالية مع المؤسسات الروسية الكبرى. كان الهدف المعلن لهذه الإجراءات إحداث شلل اقتصادي شامل يوقف عجلة الإنتاج، ويُقيّد قدرة الدولة على تمويل عملياتها العسكرية، ويخنق مصادر دخلها الحيوية.
لكن ما قاله بيسكوف كان مغايراً تماماً لتلك الرؤى المتشائمة التي تبنتها العديد من العواصم الغربية وبعض المنظمات الدولية. فقد أقرّ، بشفافية لافتة، بوجود “نقاط ضعف وتحديات” كامنة في قطاعات اقتصادية متفرقة داخل البلاد، ولم يحاول أن ينكر واقع هذه الضغوط. وهنا بيت القصيد؛ فقد ربط هذه التحديات بشكل مباشر ومفهوم بالعقوبات والقيود الاقتصادية غير المسبوقة التي تواجهها البلاد. “طبعاً فيه صعوبات، مين فينا معندوش صعوبات؟” قد يقول قائل، لكن الفارق هنا يكمن في طريقة التعامل معها والتأقلم عليها.
لم يكتفِ بيسكوف بالإقرار بالصعوبات، بل مضى ليُفصّل كيف أن الاقتصاد الروسي قد أظهر مرونة مذهلة في التأقلم مع الاحتياجات المستجدة للعملية العسكرية الخاصة. فبعد أن كانت هناك مخاوف حقيقية من عدم قدرة القطاع الصناعي والمالي على تلبية المتطلبات المتزايدة للجيش، أكد بيسكوف أن الاقتصاد قد أعاد هيكلة أولوياته ووجهات استثماراته ليُغطي كافة متطلبات الجبهة بشكل كامل. هذا التحول يعني، ببساطة، تحويلاً كبيراً للموارد والقدرات الإنتاجية نحو دعم المجهود الحربي، وهو ما يتطلب قدرة فائقة على التخطيط وإعادة التوزيع.
المتحدث باسم الكرملين لم يفته أن يستذكر ماضٍ ليس ببعيد، حيث كانت التوقعات بسيناريوهات الانهيار الاقتصادي هي حديث الساعة. “سمعنا كتير إن الاقتصاد الروسي هينهار ويقع خالص،” هكذا يمكننا أن نتخيل بيسكوف وهو يستعرض تلك التكهنات المتشائمة. لكنه استدرك قائلاً إن مرور الوقت كان هو خير دليل على خطأ تلك التكهنات. فبدلاً من الانهيار المدوّي، شهد الاقتصاد عملية “إعادة هيكلة” داخلية شاملة، سمحت له بالصمود والتعافي، بل وتلبية متطلبات “العملية العسكرية الخاصة” بشكل فعال. هل كان ذلك نتيجة لمرونة هيكلية لم تُقدّر جيداً، أم بسبب استراتيجيات حكومية حكيمة، أم ربما مزيج من الاثنين؟ سؤال تختلف الإجابات عليه باختلاف الجهات المراقبة.
وفي محاولة لوضع المشهد الاقتصادي الروسي في سياقه العالمي الأوسع، أشار بيسكوف إلى أن كل اقتصاد في العالم يواجه مشكلاته الخاصة في الوقت الحالي، خاصة مع التقلبات الجيوسياسية والاقتصادية التي يعيشها كوكبنا. “يعني مفيش اقتصاد ماشي زي الفل من غير أي مطبات،” قد يفكر البعض. لكن الفارق الجوهري في الحالة الروسية، كما أوضح بيسكوف، هو أن هذه المشكلات الطبيعية التي تواجهها أي دولة تُصبح أكثر تعقيداً وتفاقماً بفعل “العقوبات” المفروضة عليها. وهذا ليس تقليلاً من حجم المشكلة، بل هو تحديد لسببها الرئيسي من وجهة نظر الكرملين.
هذه التصريحات من قلب الكرملين تحمل في طياتها أكثر من مجرد تقرير اقتصادي؛ إنها رسالة سياسية واقتصادية متعددة الأوجه. فهي تهدف إلى طمأنة الداخل الروسي بأن الدولة تسيطر على زمام الأمور وأن الجهود المبذولة تؤتي ثمارها. وفي الوقت نفسه، هي بمثابة رد صريح على المنتقدين والتكهنات الغربية، مؤكدة أن “الحرب الاقتصادية” ليست ذات اتجاه واحد، وأن القدرة على التكيف والصمود قد تكون أقوى مما يتوقع البعض. فهل نحن أمام نموذج جديد لـ “اقتصاد الحصار” قادر على التكيف والبقاء على قيد الحياة، أم أن هذه مجرد مرحلة مؤقتة قبل أن تظهر التداعيات الحقيقية على المدى الطويل؟ إن الإجابة على هذا السؤال ستبقى رهينة الأيام القادمة، التي قد تكشف لنا خبايا اقتصادية وجيوسياسية لم تكن في الحسبان.