في زمن تتنافس فيه الأرقام والإحصائيات على عناوين الأخبار، وتتبارى التقارير الاقتصادية في تحليل أدق التفاصيل، أطلقت الحكومة المصرية مؤخرًا ما أسمته بـ”السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية”. للوهلة الأولى، استوقفتني هذه الكلمة، “سردية”! كلمة عادةً ما نجدها في صفحات الأدب العتيق، أو بين طيات الفنون السردية، أو حتى في تفكيك الأحداث التاريخية. فما الذي أتى بها إلى دهاليز الاقتصاد؟ وهل يمكن لقصة أن تكون محركًا للنمو والازدهار؟ سؤال تبادر إلى أذهان الكثيرين، بصراحة، بما فيهم أنا.
لمَ لمْ تُطلق عليها “خطة” أو “برنامج” أو “استراتيجية”؟ ولماذا هذه “السردية” تحديدًا وفي هذا التوقيت بالذات؟ هل الموضوع مجرد اختيار مُبتكر للمصطلح، أم أن وراءه معنى أعمق يرتبط بطريقة تقديم الرؤية الاقتصادية للدولة؟ الغموض الذي اكتنف المصطلح في البداية دفع الحكومة نفسها لتوضيح المقصود، مؤكدة أنها تحمل في طياتها طموحات وأهدافًا جوهرية لا تختلف كثيرًا عن أي برنامج إصلاح اقتصادي شامل.
قبل أن نخوض في غمار هذه السردية الوطنية، دعونا نفكك المعنى الأساسي لكلمة “سردية”. ببساطة شديدة، هي طريقة لعرض الأحداث والتجارب في شكل قصصي؛ فنُّ الكتابة الذي يعتمد على عناصر أساسية مثل الشخصيات والزمان والمكان والحبكة، وصولًا إلى الراوي الذي يحكي لنا القصة. تخيل أنك تحكي حكاية ما، هذا هو جوهر السردية. إذن، كيف يمكن لهذا المفهوم الأدبي والفني أن يتلاقى مع واقع الأرقام والمؤشرات الاقتصادية الجافة؟
من هذا التعريف المبسّط، يتضح أن استخدام الحكومة لكلمة “السردية” لم يكن عشوائيًا، بل جاء لوضع كل ما أنجزته الدولة من عمليات تنمية على مدار العقد الماضي، وما تطمح إليه بحلول عام 2030 وصولًا إلى 2050، في إطار اقتصادي كلي مبسط. بمعنى آخر، هي محاولة لصياغة قصة متكاملة عن مسيرة مصر الاقتصادية، قصة لها بداية (ما تم إنجازه)، وحبكة (التحديات الحالية والمستقبلية)، وشخصيات (القطاعات الاقتصادية، المستثمرون، المواطنون)، وهدف نهائي واضح المعالم. يعني، الموضوع مش مجرد حكاية وخلاص، ده حكاية البلد اقتصادياً.
قد يكون اختيار المسمى – “السردية” – محل جدال، وربما لم يكن الأكثر توفيقًا في توصيل الفكرة الأساسية للمجتمع بأسره. فكل ما يمس حياة المواطن واقتصاده اليومي يُفضل أن يُقدم بلغة واضحة ومباشرة، مدعومة بالأرقام والنتائج الملموسة. أليست الأرقام أبلغ من الكلمات في كثير من الأحيان، خاصةً عندما يتعلق الأمر بمستقبل لقمة العيش؟ وهذا ما تحقق في سنوات مضت وتطمح الحكومة في استمراره.
وفي خضم التساؤلات، طفا على السطح سؤال آخر هام: هل ترتبط هذه “السردية” بأي إجراءات أو متطلبات جديدة من صندوق النقد الدولي؟ والإجابة القاطعة التي أكدتها الحكومة هي: “لا”. الموضوع لا علاقة له بأي التزامات إضافية تجاه الصندوق، وهذا يريح ناس كتير كانت قلقانة بصراحة.
لتوضيح الصورة بشكل أعمق، قامت وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي بإصدار كتاب “المرجعية المؤسسية لإعداد السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية”. وفيه، قدمت الوزارة تعريفات متعددة لهذه “السردية” التي ليست مجرد عنوان، بل هي:
- برنامج إصلاح اقتصادي متكامل وأداة لترويج ركائز الاقتصاد المصري المتينة.
- إطار يعكس بوضوح السياسات والإصلاحات الهيكلية التي تدعم النمو المستدام وتجذب الاستثمار الأجنبي والمحلي.
- منصة لتعزيز مشاركة القطاع الخاص، وعرض البدائل التمويلية المتاحة له، وتسليط الضوء على الفرص القطاعية الواعدة في شتى المجالات.
- إطار شامل يضمن التكامل بين برنامج عمل الحكومة الحالي ورؤية مصر 2030 الطموحة، وكذلك الاستراتيجيات القطاعية المختلفة، وذلك كله في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة التي تفرض تحديات وفرصًا جديدة.
ببساطة، “السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية” تمثل نموذجًا اقتصاديًا يرتكز على استكمال مسيرة الإصلاح الاقتصادي التي بدأت بالفعل. لكنها لا تتوقف عند هذا الحد؛ بل تركز بشكل أكبر على القطاعات ذات الإنتاجية الأعلى والأكثر قدرة على النفاذ إلى الأسواق التصديرية العالمية. وهذا يعتمد بشكل كبير على الاستفادة القصوى من البنية التحتية المتطورة التي تم إنجازها على مدار السنوات الماضية، والتي أصبحت الآن جاهزة تمامًا لدعم أي طفرة اقتصادية مرتقبة.
في النهاية، دعونا لا نغرق كثيرًا في جدل المسميات. سواء أسميناها “سردية” أو “خطة” أو “رؤية”، يبقى الأهم هو الجوهر والمضمون. ما يهمنا جميعًا هو ما ستحققه هذه “السردية الوطنية” من تطوير وتنمية حقيقية، وإصلاحات هيكلية ملموسة تنعكس إيجابًا على حياة المواطن المصري. فهل ستنجح هذه “القصة الاقتصادية” في جذب المستثمرين، وتحفيز القطاع الخاص، وخلق فرص عمل حقيقية للشباب؟ وهل ستكون قادرة على الصمود في وجه المتغيرات الاقتصادية والسياسية التي تشهدها المنطقة والعالم؟ هذا هو مربط الفرس، وهذا ما يجب أن نتابعه عن كثب. ففي عالم مليء بالتحديات، لا يكفي أن تكون لدينا قصة جيدة، بل يجب أن نضمن أنها قصة نجاح تروى للأجيال القادمة.