في قلب دبي، حيث تتلألأ ناطحات السحاب كتحف معمارية، وتجذب المشاريع العقارية المستثمرين من كل حدب وصوب، تتشابك خيوط الحياة اليومية مع تعقيدات التشريعات لترسم لوحة حضارية فريدة. لكن خلف هذا البريق، تتكشف أحياناً تحديات عملية، خاصة فيما يتعلق بإدارة وتشغيل تلك الصروح الشاهقة. أحد هذه التحديات، الذي طالما أثار الجدل والقلق بين الملاك والمطورين، كان يكمن في رسوم الخدمات العقارية. تصور كده إنك اشتريت شقة أحلامك في برج فاخر، والموضوع كله متعلق بمين يدفع تمن صيانة الأسانسير والتكييف المركزي وحمامات السباحة والحدائق المشتركة؟ سؤال يبدو بسيطاً، لكنه كان معقداً بشكل يثير الصداع.
لم يكن الجدل مجرد همسات خافتة في أروقة الشركات العقارية، بل تحول إلى خلافات متكررة ترهق أطراف العملية العقارية. من يدفع كلفة تشغيل وصيانة الأجزاء المشتركة في المباني؟ هل هو المالك الذي لم يستلم وحدته بعد؟ أم المطور الذي لا يزال يحتفظ بحق الملكية النهائية لحين سداد كامل الأقساط؟ هذه الأسئلة الملحة كانت بحاجة إلى إجابة حاسمة، ومبدأ قانوني واضح يضيء الطريق في دهاليز هذه العلاقة الشائكة.
هنا، يتدخل مركز فض المنازعات الإيجارية في دبي، بصفته مرجعاً قضائياً موثوقاً، ليضع حداً لهذه الحيرة. لقد أرسى المركز مؤخراً مبدأً قانونياً جديداً من شأنه أن يعيد التوازن ويجيب عن تلك التساؤلات المعلقة. القرار الجديد يلزم مالك الوحدة العقارية بسداد رسوم الخدمات، حتى في حال عدم استلامه للعقار، بشرط أن يكون امتناعه عن الاستلام راجعاً إلى سبب يعود إليه شخصياً. يعني ببساطة، لو التأخير منك، فالمسؤولية مسؤوليتك. هذا التوجه القانوني ليس وليد اللحظة، بل يستند إلى القانون رقم (6) لسنة 2019 بشأن الملكية المشتركة، والذي كان قد نظم من قبل آلية سداد رسوم الخدمات لتغطية النفقات المتعلقة بإدارة وتشغيل وصيانة المباني.
القانون الأصلي كان واضحاً نسبياً في نصوصه الأساسية: يتحمل المالك أو المطور هذه الرسوم عن الوحدات غير المبيعة، لضمان استمرارية الخدمات وكفاءة المبنى. شركات الإدارة، وهي الجهات المعتمدة لإدارة وتشغيل وصيانة هذه المباني، تعتمد على هذه الرسوم لضمان عدم توقف أي خدمة حيوية. لكن يا جماعة، الحياة العملية دايماً بتطلع لنا سيناريوهات جديدة مكنتش في الحسبان. ورغم وضوح التشريع في كثير من الحالات، إلا أن سوق العقارات المتنامي في دبي أفرز حالة مستحدثة أثارت جدلاً قانونياً واسعاً، وهي الحالة التي تناولها هذا المبدأ الجديد.
السيناريو المحير كان يتمثل في الوحدات العقارية التي بيعت بالتقسيط وتم إنجازها فعلياً، لكنها لم تسجل بشكل نهائي بأسماء المشترين. والسبب في عدم التسجيل، وبالتالي عدم الاستلام الفعلي، يعود إلى أن الشركات المطورة لم تدعُ هؤلاء المشترين للاستلام لوجود مستحقات مالية متأخرة عليهم. تصور كده المنظر عامل إزاي: الشقة جاهزة، خدمات المبنى شغالة، وممكن يكون غيرك من الجيران مستلم وساكن وبيدفع، لكن أنت مستني تسدد باقي المبلغ عشان تستلم مفتاحك، وفي نفس الوقت، فيه رسوم خدمات تتراكم. مين يتحملها في الفترة دي؟ هل هو المطور اللي لسه ما استلمش كل فلوسه، ولا المشتري اللي لسه مستلمش مفتاح شقته؟ الناس دي، بصراحة، بيستغربوا: إزاي ندفع واحنا لسه مستلمناش؟
لحسم هذا الجدل الذي كان يشغل بال الكثيرين، تم إحالة النزاع إلى الهيئة العامة لتوحيد المبادئ بالمركز. هذه الهيئة، التي تتمتع بخبرة واسعة في تدقيق النصوص التشريعية وتوحيد الرؤى القانونية، أجرت دراسة معمقة للنصوص ذات الصلة ولتفاصيل هذه الحالة المستجدة. وبعد تمحيص دقيق، توصلت الهيئة إلى قرار حاسم: المشتري المقيد اسمه في السجل المبدئي للوحدة السكنية هو الملزم بسداد رسوم الخدمات. هذا الالتزام يبدأ من تاريخ إنجاز المبنى أو من اللحظة التي يتخلف فيها المشتري عن سداد باقي الثمن المستحق عليه، حتى لو لم يتم نقل الملكية بشكل نهائي إلى السجل النهائي بعد.
هل هذا القرار عادل؟ بالنظر إلى منطق الأمور، فإن الهدف الأساسي منه هو ضمان استدامة المرافق والخدمات. فالمبنى، بمجرد إنجازه، يحتاج إلى صيانة وتشغيل مستمرين، وهذه العمليات تتطلب تمويلاً. ما ينفعش واحد ما دفعش وياخد خدمة على حساب غيره، صح؟ هذا المبدأ يحمي المطور من تحمل أعباء لا تخصه في فترة لا يتحمل هو مسؤولية التأخير فيها، كما أنه يضمن عدم إلحاق الضرر ببقية الملاك الملتزمين الذين يسددون رسومهم بانتظام. فلماذا يتحمل هؤلاء تكاليف إضافية بسبب تقصير البعض؟
في الختام، يُعد هذا المبدأ القضائي خطوة هامة نحو تعزيز الثقة في الإطار القانوني المنظم للقطاع العقاري في دبي. إنه ليس مجرد قرار يتعلق برسوم، بل هو تأكيد على أن المنظومة القانونية في الإمارة تتميز بالمرونة والقدرة على التكيف مع التحديات الجديدة، وتعمل باستمرار على سد أي ثغرات قد تنشأ. هذا القرار يضمن استمرار الخدمات الأساسية داخل المباني بشكل سلس، ويحمي حقوق الملاك الملتزمين، ويمنع أي محاولة لاستغلال النصوص القانونية على حساب المجتمع العقاري ككل. وده طبعاً بينعكس إيجاباً على جاذبية دبي كوجهة استثمارية عالمية موثوقة ومستقرة، حيث يعرف كل طرف ما له وما عليه، وتُصان الحقوق في جميع الأحوال.