في دهاليز السياسة الأمريكية الصاخبة، هناك همس يتزايد ليصبح صوتاً واضحاً يتردد صداه في كل بيت أمريكي: الاقتصاد. فبعد عودة الرئيس دونالد ترامب إلى سدة الحكم هذا العام، حاملاً معه وعوداً براقة بإصلاح شامل للعجلة الاقتصادية، يبدو أن المزاج العام ليس على ما يرام. هل بدأت الأرض تهتز تحت أقدام الإدارة الحالية، أم أنها مجرد سحابة صيف عابرة في سماء الشعبية الرئاسية؟
استطلاع رأي حديث، أجرته وكالة رويترز بالتعاون مع مؤسسة إبسوس، جاء ليرسم صورة ربما لا تروق كثيراً للبيت الأبيض. فنتائج هذا المسح، الذي استمر لثلاثة أيام وأُغلقت أبوابه يوم الأحد الماضي، أظهرت تراجعاً طفيفاً، لكنه ذو دلالة، في مستوى التأييد الشعبي للرئيس. فقد أقرّ 41% فقط من المشاركين بأداء ترامب في الرئاسة، وهو انخفاض بنقطة مئوية واحدة مقارنة باستطلاع سابق أُجري في الفترة من الخامس إلى التاسع من سبتمبر/أيلول. قد تبدو نقطة واحدة رقماً صغيراً على الورق، لكنها في عالم السياسة مؤشر يُنبئ بتحول محتمل في بوصلة الرأي العام.
ولعل الجوهر الحقيقي لهذا التراجع لا يكمن في الرقم بحد ذاته، بل فيما يقف وراءه: القلق المتزايد حيال الوضع الاقتصادي. فالمواطن الأمريكي، الذي كان يمني النفس بتحسن ملموس في ظروفه المعيشية، بدأ يشعر بوطأة واقع اقتصادي يتجه، في نظر الكثيرين، نحو الهاوية. وكأن الأرقام تتحدث بصراحة: نحو 54% ممن شملهم الاستطلاع يرون أن الاقتصاد الأمريكي يسير في الاتجاه الخاطئ. هذا الرقم ليس جديداً تماماً؛ فقد شهدنا تصاعداً تدريجياً في هذه النسبة، من 52% في يوليو/تموز، إلى 53% في أغسطس/آب، وصولاً إلى مستواه الحالي. يا ترى، هل هي مجرد مخاوف عابرة، أم أنها تراكمات بدأت تظهر آثارها بوضوح؟
الأمور تزداد تعقيداً عندما نتمعن في تفاصيل النظرة الشعبية لإدارة ترامب للملف الاقتصادي. فثقة الأمريكيين في قدرة الإدارة على معالجة قضاياهم المعيشية تتضاءل شيئاً فشيئاً. 35% فقط أعربوا عن رضاهم على طريقة تعامل الإدارة مع الاقتصاد بشكل عام، بينما كانت نسبة الرضا عن كيفية تعاملها مع تكاليف المعيشة أقل بكثير، حيث لم تتجاوز 28%. هذه الأرقام، هي الأخرى، تأتي أقل من نظيراتها في الاستطلاعات السابقة، ما يشير إلى تآكل مستمر في القاعدة الداعمة للرئيس في هذا الصدد. يعني بالبلدي كده، الناس ابتدت تحس إن الوعود الكبيرة بتاعت ترامب يمكن ما كانتش على قد المسؤولية، أو إن الواقع أقوى من أي كلام.
لكن ما الذي يغذي هذا الشعور المتنامي بالقلق؟ الحقيقة أن المشهد الاقتصادي الأمريكي لم يكن وردياً تماماً في الآونة الأخيرة. شهدت الولايات المتحدة تراجعاً حاداً في نمو الوظائف خلال شهر أغسطس/آب، وهو ما أدى بدوره إلى ارتفاع معدل البطالة ليبلغ أعلى مستوياته منذ ما يقرب من أربع سنوات، عند 4.3%. وفي الوقت ذاته، تسارعت وتيرة التضخم بشكل ملحوظ في الشهر الماضي، ما يعني أن القوة الشرائية للدولار تتآكل، وأن أسعار السلع والخدمات في ارتفاع مستمر. تخيل نفسك وأنت تحاول تدبير نفقاتك اليومية، ثم تجد أن دخلك لم يعد يغطي احتياجاتك الأساسية بنفس القدر السابق. إنه شعور محبط بلا شك.
ولم يكن هذا هو أول مرة ترتفع فيها حمى المخاوف الاقتصادية بين العامة. ففي وقت سابق من هذا العام، ومع تلويح ترامب بفرض رسوم جمركية ضخمة على السلع المستوردة، اهتزت أسواق الأسهم العالمية والمحلية، وشهدت قيمها انخفاضاً حاداً. ورغم أن تلك الأزمة قد مرت نسبياً، إلا أن ذكراها لا تزال عالقة في الأذهان، وتترك وراءها شعوراً بعدم اليقين. هل هي سياسة اقتصادية محفوفة بالمخاطر، أم أنها جزء من استراتيجية طويلة الأمد لم تُفهم بعد؟ هذه التساؤلات تبقى معلقة في أذهان الكثيرين.
في الختام، يبدو أن الرئيس ترامب يواجه تحدياً حقيقياً يهدد صميم قاعدته الشعبية: الاقتصاد. فالأرقام لا تكذب، ومخاوف الناس من ارتفاع الأسعار وصعوبة تدبير المعيشة ليست مجرد أرقام على ورقة، بل هي واقع يومي يعيشه الملايين. ففي حين قد يرى البعض أن هذه التراجعات طفيفة ويمكن تجاوزها، يرى آخرون أنها مؤشرات أولية على أن الدعم الشعبي لترامب بدأ يفقد بريقه، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية. السؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن هو: هل ستستطيع الإدارة الأمريكية احتواء هذا التذمر الاقتصادي المتزايد قبل أن يتحول إلى عاصفة انتخابية حقيقية، أم أن الوعود الكبرى ستصطدم بواقع اقتصادي يصعب ترويضه؟ الأيام القادمة وحدها كفيلة بكشف الإجابة.