هل تخيلت يوماً أن تصبح المباني الحكومية، تلك الصروح الشاهدة على تاريخ الإدارة والتخطيط، منارات للإبداع البيئي والاستدامة؟ في زمن تتزايد فيه التحذيرات من التغيرات المناخية، وتتجه الأنظار نحو كل بصمة كربونية، يأتينا خبر من قلب المملكة العربية السعودية ليؤكد أن الطموح لا يعرف حدوداً، وأن الالتزام بالبيئة ليس مجرد شعارات، بل ممارسات ملموسة. حديثنا اليوم عن وزارة الاقتصاد والتخطيط، التي لم تكتفِ بكونها عقل المملكة المدبر لمستقبلها الاقتصادي، بل صارت أيضاً نموذجاً حياً للمبنى الأخضر، محققةً إنجازاً غير مسبوق يجعلها أول وزارة سعودية تحظى بشهادة “LEED البلاتينية” المرموقة في مجال تشغيل وصيانة المباني القائمة.
هذا الإنجاز، لمن لا يعرف، ليس مجرد وسام شرف، بل هو اعتراف عالمي بأعلى مستويات الكفاءة البيئية. فشهادة “LEED”، أو القيادة في تصميمات الطاقة والبيئة، هي المعيار الذهبي لتقييم المباني الخضراء على مستوى العالم، ويصدرها المجلس الأمريكي للأبنية الخضراء (USGBC). تخيلوا معي أن هذه الشهادة ليست سهلة المنال؛ إنها بمثابة الأوسكار في عالم الاستدامة، تتطلب معايير دقيقة وتطبيقاً صارماً لممارسات تضع البيئة في صميم كل قرار، بدءاً من استهلاك الطاقة والمياه وصولاً إلى جودة الهواء الداخلي وإدارة النفايات. الوصول إلى المستوى البلاتيني يعني أن الوزارة قد تجاوزت كل التوقعات، ووضعت معياراً جديداً للتميز.
لكن ما الذي يعنيه ذلك على أرض الواقع؟ الأمر ليس مجرد طلاء أخضر على الجدران، أبداً. يعني أن كل تفصيلة داخل المبنى، من نظام التكييف الذي يستهلك طاقة أقل بكثير، مروراً بإضاءة تعتمد على حساسات للحركة والضوء الطبيعي، ووصولاً إلى طريقة إدارة المياه وتقليل الهدر فيها بشكل ملحوظ، كلها تعمل بتناغم لتحقيق أقصى قدر من الكفاءة البيئية. يعني مثلاً إن دورات المياه نفسها تكون موفرة للمياه بشكل لا يصدق، وده بجد بيفرق كتير في استهلاك الموارد. أيضاً، جودة الهواء داخل المكاتب لا تُقارن، فأنظمة التهوية تكون مصممة بحيث تضمن بيئة عمل صحية ومنعشة، وتقلل من انتشار الملوثات الداخلية التي قد تؤثر على صحة الموظفين وإنتاجيتهم. بصراحة، الموضوع مش بس ورق؛ هي بيئة عمل مختلفة تماماً.
ويأتي هذا الإنجاز لوزارة الاقتصاد والتخطيط حاملاً في طياته بعداً استراتيجياً أعمق بكثير من مجرد تحسين بيئة عملها الخاصة. فالوزارة، بحكم دورها، تقود جهود المملكة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وهي رؤية طموحة تهدف إلى بناء مستقبل مزدهر للجميع، مع مراعاة الحفاظ على كوكبنا. حصولها على هذه الشهادة يؤكد ريادتها ليس فقط في التخطيط، بل في التطبيق العملي لهذه المبادئ. هل يمكن أن يكون هناك مثال أفضل من أن تكون الجهة المسؤولة عن توجيه مسار التنمية المستدامة في البلاد هي نفسها من تتبنى وتطبق أعلى معايير الاستدامة في عملياتها التشغيلية اليومية؟ هذا يضيف مصداقية ووزناً لكل مبادرة تطلقها الوزارة، ويعزز مكانة المملكة في المحافل الدولية المعنية بالاستدامة.
هذا التناغم بين الرؤية والتطبيق ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج شراكة استراتيجية مع شركة أصول العقارية، التي لعبت دوراً محورياً في تحقيق هذه المعايير الصارمة. إنها قصة نجاح تُظهر كيف يمكن للتعاون بين القطاعين الحكومي والخاص أن يدفع عجلة الابتكار ويحقق إنجازات نوعية. فلكي تصل إلى المستوى البلاتيني، لا بد أن تكون هناك استراتيجية واضحة، التزام راسخ، وتطبيق منهجي لكل معايير “LEED” على مدار فترات طويلة، وهذا يتطلب خبرة وتفانياً من جميع الأطراف المشاركة.
في سياق أوسع، يتماشى هذا الإنجاز بشكل مباشر مع مستهدفات رؤية السعودية 2030، التي تضع جودة الحياة والاستدامة في صلب أولوياتها. أن تكون أول وزارة في المملكة تحقق هذا المستوى يعني أنها تضع أساساً لمستقبل أكثر اخضراراً، وتلهم باقي الجهات الحكومية والقطاع الخاص للسير على خطاها. يمكننا أن نتخيل أن هذا سيكون بمثابة حجر الزاوية الذي سيدفع بانتشار الممارسات المستدامة في جميع أنحاء المملكة، مما يحول المباني من مجرد هياكل خرسانية إلى كائنات حية تتنفس وتتفاعل بمسؤولية مع البيئة المحيطة. يعني بصراحة، لو وزارة بحجم دي قدرت تعملها، يبقى مفيش حجة لأي جهة تانية إنها ما تحاولش.
وفي الختام، يمثل حصول وزارة الاقتصاد والتخطيط على شهادة “LEED البلاتينية” نقطة تحول حقيقية. إنه ليس مجرد خبر عابر في زحام الأخبار، بل هو رسالة واضحة من المملكة: التزامنا بالاستدامة جاد وعملي. إنه دعوة للجميع، من المخططين إلى المطورين، ومن الموظفين إلى المواطنين، لإعادة التفكير في علاقتنا بالمباني والبيئة. هل يمكننا أن نتطلع إلى مستقبل حيث تكون المباني الخضراء هي القاعدة لا الاستثناء؟ حيث كل مؤسسة تسعى لتكون نموذجاً يحتذى به في الحفاظ على مواردنا للأجيال القادمة؟ هذا الإنجاز يفتح باب الأمل ويضيء الطريق، مؤكداً أن التخطيط للمستقبل يبدأ من مبانينا اليوم، وأن الاستدامة هي مفتاح الازدهار المستمر.