في شوارع الصين الصاخبة، حيث تتسابق أمواج البشر وتقطع دراجات التوصيل طرقات المدن الصينية الواسعة، لا يقتصر المشهد على مجرد حركة يومية اعتيادية. إنها قصة تحوّل اقتصادي غير مسبوق، يهزّ أركان سوق العمل التقليدي ويضع العالم كله أمام مرآة تُظهر ما قد يخبئه المستقبل. هذا ليس مجرد تغيير عابر؛ إنه انقلاب حقيقي في مفهوم الوظيفة، تُطلقه قوى التكنولوجيا المتسارعة، ويقوده جيشٌ هائل يُعرف بـ”عمال الجيغ”.

لم يعد الاقتصاد الصيني اليوم يعتمد على الفلاحين الذين بنوا أساسه، ولا على “بروليتاريا” المصانع التي صنعت نهضته الصناعية في القرن العشرين. لقد ظهرت طبقة جديدة بالكامل، تضم أكثر من 200 مليون شخص. تخيل الرقم! هذا يعني أن نحو 40% من القوة العاملة الحضرية في البلاد أصبحت تعتمد على هذا النمط من العمل المرن. الأمر ليس مجرد أفراد يبحثون عن عمل هنا وهناك، بل باتوا فئة اقتصادية ضخمة، تشكل تحذيرًا صارخًا للعالم أجمع، بحسب مجلة “إيكونوميست” المرموقة. فكيف يمكن للحكومات أن تحمي حقوق هؤلاء العمال في ظل هذا الاقتصاد الرقمي المتغير بسرعة البرق؟ سؤال يطرح نفسه بقوة.

الصين، التي كانت رائدة في تبني “التطبيقات العملاقة” منذ وقت مبكر، أصبحت اليوم تمتلك واحدًا من أكثر اقتصادات العمل المرن تطورًا في العالم. بصراحة، هي سبقت كتير من الدول في الحتة دي. الأرقام تتحدث عن نفسها: هناك 84 مليون صيني يعملون حاليًا عبر منصات رقمية، سواء في خدمات التوصيل السريع أو قيادة سيارات الأجرة الذكية. لكن الظاهرة لا تقتصر على الصين وحدها، ففي الهند يبلغ عدد عمال “الجيغ” حوالي 10 ملايين، وفي ماليزيا يصل العدد إلى 1.2 مليون شخص، أي ما يمثل 7% من إجمالي القوة العاملة هناك. الأمر أصبح عالميًا، يا جماعة.

والمفاجأة الكبرى، التي قد تصدم الكثيرين، هي أن هذا التحول لم يقتصر على قطاع الخدمات فحسب. لا، بل امتد ليضرب في قلب الصناعة الصينية نفسها، تلك المصانع العملاقة التي لطالما كانت رمزًا للاستقرار الوظيفي. فاليوم، تستعين مصانع الإلكترونيات والنسيج بعشرات الملايين من العمال المؤقتين، يتنقلون من مصنع لآخر بمرونة عجيبة عبر منصات التوظيف الرقمية. تشير التقديرات إلى أن عددهم يصل إلى 40 مليون عامل، وهذا يعادل ثلث القوة العاملة في قطاع التصنيع! تخيل، هذا الرقم يزيد بأكثر من ثلاثة أضعاف عن نظيره في أميركا. هل يعني هذا أن التصنيع لم يعد الوعد الأبدي بالاستقرار؟

من ناحية، يرى بعض العمال في هذه المرونة فرصة ذهبية لتحسين دخلهم. لقد أظهر مسح أجرته مجلة “إيكونوميست” عام 2022 أن سائقي التوصيل في الصين يكسبون دخلاً أعلى بنحو 20% من العمال المهاجرين التقليديين. يعني بصراحة، الفلوس كانت حلوة في الأول. لكن هذه المكاسب، للأسف، غالبًا ما تكون مؤقتة وقصيرة الأجل، وتخفي وراءها تحديات هيكلية عميقة تؤثر على حياة الملايين. فكر فيها: لا يوجد تدريب مستدام يضمن تطورهم المهني، وصعوبة بالغة في الحصول على الخدمات العامة بسبب نظام “هوكو” لتسجيل الأسر، والأدهى من ذلك كله، صعوبة بناء حياة مستقرة تؤهل الشباب للزواج وتكوين أسر. يعني مفيش أمان للمستقبل خالص؟

ترى “إيكونوميست” أن هذه المعطيات تجعل من “الجيل الجديد من العمال المرنين جيلاً قد يشيخ قبل أن يزدهر”. ويا لها من عبارة مؤثرة! فهم يواجهون ضغوطًا ديموغرافية هائلة، حيث يتعين عليهم إعالة أنفسهم وأعداد متزايدة من كبار السن في وقت واحد. إنها معضلة حقيقية تتطلب تفكيرًا جادًا. التجربة الصينية تكشف حقيقة مؤلمة: التصنيع لم يعد الضمانة للاستقرار الوظيفي والاجتماعي الذي عرفناه في الماضي، فالأتمتة ابتلعت العديد من الوظائف التقليدية. كما أن القضاء على العمل المرن ليس خيارًا واقعيًا، فالكثيرون يلجأون إليه كملاذ أخير، إذ أظهر مسح حديث أن 77% من سائقي التطبيقات انضموا إلى هذا القطاع بعد فقدان وظائفهم السابقة. في النهاية، “الخوارزميات قد تكون قاسية، لكنها تظل أفضل من سماسرة العمل الذين كانوا يفرضون شروطًا جائرة على العمال المؤقتين.” هذا رأي المجلة، وله وجهة نظر، أليس كذلك؟

الحل، برأي المجلة، يكمن في إعادة صياغة العقد الاجتماعي بالكامل وتصميم السياسات الاجتماعية من جذورها. يجب أن تصبح المعاشات التقاعدية أكثر قابلية للنقل بين الوظائف المختلفة، وأن يتم تخفيف أعباء مساهمات الضمان الاجتماعي التي تشجع الشركات على تفضيل العمال المؤقتين. والأهم من ذلك، إلزام المنصات الرقمية بالمساهمة في التأمين الصحي والتغطية الاجتماعية للعاملين عليها. بدأت الصين بالفعل في اتخاذ خطوات لتنظيم خوارزميات التطبيقات، وشرعت الهند في تسجيل العمال المؤقتين لتوفير تأمين ضد الحوادث وخدمات صحية مستقبلية. لكن المجلة تحذر من أن هذه الإجراءات “غير كافية ما لم تُصغ سياسات جديدة تتكيف مع واقع العمل المرن.”

في الختام، تحذر “إيكونوميست” من أن كثيرًا من الدول الآسيوية “قد تشيخ قبل أن تصبح غنية”، وهذا يجعل مسألة دمج العمالة المرنة وحمايتها أولوية قصوى. إن عمال “الجيغ” في الصين ليسوا مجرد جزء من إحصائية، بل يمثلون “مرآة لما قد ينتظر العالم بأسره”. إنها نقطة التقاء بين التكنولوجيا المتسارعة وهشاشة العمالة، وهو ما يفرض على الحكومات والساسة إعادة التفكير في ماهية العمل، وماذا يعني أن تكون جزءًا من القوة العاملة في القرن الحادي والعشرين. فهل نحن مستعدون لمواجهة هذا التحدي الكبير، وإعادة بناء عقد اجتماعي يحمي الكرامة الإنسانية في عالم يتغير بسرعة فائقة؟ يا ترى إحنا جاهزين للتحدي ده، ولا هنصحى متأخرين؟

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.