القاهرة… يا سيدة المدائن، يا من شهدت تاريخاً يمتد لآلاف السنين، ومواقف حفرت في ذاكرة الزمن. ألا تستحق هذه المدينة العريقة، بكل ما تحمله من سحر وأصالة، أن تستعيد بريقها وتستعيد مكانتها كقلب نابض بالحياة والثقافة والحضارة؟ سؤال يتردد صداه في أروقة الزمان والمكان، ويبدو أن الإجابة تأتي الآن على هيئة خطط طموحة ومشاريع جادة، تتشكل ملامحها في اجتماع رفيع المستوى جمع عمالقة التنمية الحضرية في مصر.
في مقر وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية بالعاصمة الإدارية الجديدة، شهدت الأيام القليلة الماضية لقاءً جوهريًا، حيث استقبل المهندس شريف الشربيني، وزير الإسكان، الدكتور إبراهيم صابر، محافظ القاهرة. لم يكن اللقاء مجرد تبادل للزيارات البروتوكولية، بل كان مائدة عمل حقيقية، اجتمع عليها كبار المسؤولين من الوزارة والمحافظة، ومن هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، والشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي، وصندوق الإسكان الاجتماعي ودعم التمويل العقاري. الهدف؟ استعراض الموقف التنفيذي لعدد لا يستهان به من المشروعات التي تتضافر فيها جهود هذه الكيانات الضخمة، في سعي حثيث لضخ دماء جديدة في شرايين المحروسة.
المهندس الشربيني، وهو يستقبل محافظ القاهرة بحفاوة، لم يغفل الإشارة إلى عمق العلاقة وتعدد الملفات المشتركة بين الوزارة ومحافظة القاهرة. و”بصراحة كده”، يعني الموضوع مش مجرد تعاون عادي، دي شراكة استراتيجية بتستهدف تغيير وش المدينة بالكامل. فكما نعلم جميعًا، تولت الوزارة منذ فترة طويلة مهمة تطوير المناطق غير الآمنة بالمحافظة، والتي كانت تمثل تحدياً كبيراً، وقنبلة موقوتة اجتماعية وعمرانية. ولعل مشروع تطوير “مثلث ماسبيرو” يقف شامخاً كنموذج يحتذى به في هذا السياق، قصة نجاح تحولت فيها العشوائية إلى مجتمع حضري متكامل. ولكن القضية لا تتوقف عند هذا الحد، ففي الوقت ذاته، تتجه الأنظار نحو إحياء “القاهرة الخديوية” بكل ما تحمله من عبق التاريخ وجمال المعمار، ضمن خطة الدولة الشاملة لاستعادة “القاهرة التاريخية” لدورها الحضاري والثقافي الأصيل.
من جانبه، أكد الدكتور صابر على استمرارية التعاون والتنسيق الفعال بين المحافظة وأجهزتها التنفيذية ووزارة الإسكان وكياناتها المختلفة. و”يا جماعة الخير”، هذا التعاون هو أساس أي تقدم حقيقي. فبدونه، تتشتت الجهود وتضيع الموارد، ولكن هنا، هناك رؤية موحدة وهدف مشترك: تطوير القاهرة والعودة بها إلى سالف رونقها وبهاءها. فالمشروعات التنموية المتعددة التي يتم تنفيذها تخدم بالأساس سكان محافظة القاهرة، وتعد استثماراً في مستقبلهم وراحتهم.
وانتقل الحديث بعد ذلك إلى ملف شائك وحساس، لطالما شغل بال الكثيرين: العقارات الآيلة للسقوط. ألم نتساءل جميعاً كيف يمكن أن يعيش الناس في مبانٍ قد تنهار في أي لحظة؟ هذا الخطر الداهم كان محور متابعة دقيقة من الوزير والمحافظ، حيث تم استعراض الإجراءات المقترحة للتعامل مع هذا الملف، وتنفيذ توجيهات الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، بإجراء حصر دقيق وشامل لجميع هذه العقارات. والهدف واضح ومحدد: وضع آلية واضحة ومبتكرة للتعامل معها، تمامًا كما تم التعامل بنجاح مع مشكلة المناطق غير الآمنة أو العشوائيات.
وفي سياق متصل، استعرض اللقاء آخر التطورات الخاصة بمشروع “مثلث ماسبيرو” الذي ذكرناه آنفاً، وكذلك الموقف التنفيذي لمشروع الأبراج الشاهقة المطلة على النيل في المنطقة، ومشروع “سور مجرى العيون” الذي يمثل تحفة تاريخية يجري إحياؤها. المناقشات كانت معمقة، و”من الآخر كده”، كان الهدف الرئيسي هو دفع معدلات التنفيذ وضمان سير العمل بأقصى سرعة وكفاءة ممكنة.
أما عن الجانب الثقافي والتراثي، فقد خصص جزء كبير من اللقاء لتناول تفاصيل الأعمال الجارية في مشروع تطوير “حديقة الأزبكية التراثية” والمنطقة المحيطة بها. فكم من ذكريات تحملها هذه الحديقة العريقة؟ وكم من قصص عاشتها أجيال وأجيال؟ متابعة تنفيذ توجيهات رئيس مجلس الوزراء بالحفاظ على الطابع المعماري الفريد والمميز للمنطقة كانت حاضرة بقوة. الاستعدادات لافتتاح الحديقة رسمياً تسير على قدم وساق، وقد أكد الوزير أن هذا المشروع ليس مجرد إعادة تأهيل، بل هو “إعادة إحياء” لهذه الحديقة التاريخية، ضمن جهود الدولة الأوسع لإعادة الرونق الحضاري لعدة مناطق من القاهرة التاريخية، وتجديد روحها ودورها الثقافي والتاريخي، وتعزيز مكانتها السياحية كوجهة عالمية.
وفي لمسة إنسانية تعكس الاهتمام بالمواطن البسيط، تطرق اللقاء إلى موقف مشروعات صندوق الإسكان الاجتماعي ودعم التمويل العقاري. الرقم وحده يتحدث عن حجم الإنجاز: 229,086 وحدة سكنية تم تنفيذها على مستوى محافظة القاهرة. هل تخيلت يوماً أن هذا العدد الهائل من الأسر وجد سقفاً يؤويهم وحلماً يتحقق؟ هذا هو جوهر التنمية المستدامة، توفير مسكن لائق لكل مواطن. ولم يغفل اللقاء كذلك مناقشة ملفات تتعلق بمحطات مياه الشرب والصرف الصحي في عدة مناطق، وهو ما يمثل شريان الحياة الأساسي لأي تجمع سكاني.
في الختام، يمكن القول إن هذا الاجتماع لم يكن مجرد حدث عابر في العاصمة الإدارية الجديدة، بل كان بمثابة حلقة وصل رئيسية في سلسلة طويلة من الجهود المخلصة لإعادة تشكيل وجه القاهرة. إنه يعكس رؤية واضحة وإرادة قوية لتحويل التحديات إلى فرص، والمشكلات إلى حلول، والأحلام إلى واقع ملموس. فهل نشهد قريباً القاهرة وهي تزهو مجدداً، تستعيد بهاءها القديم وتتألق برونقها الحديث، لتظل درة الشرق، ومقصداً للزائرين، وموطناً للفخر والعزة؟ “إن شاء الله” هذا ما نأمله، وهذا ما تعمل عليه أيادٍ مصرية لا تعرف الكلل ولا الملل.