هل تذكرون تلك الأيام التي كان فيها امتلاك شقة حلماً يمكن تحقيقه بالكاد، ثم فجأة أصبح حلماً بعيد المنال للبعض، أو استثماراً ذهبياً للبعض الآخر؟ هذا هو السؤال الذي يتردد صداه في أروقة البيوت والمقاهي، في مجالس الأصدقاء والمستثمرين على حد سواء. الأسواق العقارية العالمية شهدت قفزات جنونية خلال السنوات الأخيرة، وها هي المخاوف تتصاعد من شبح “الفقاعة العقارية” التي قد تنفجر في أي لحظة، مهددة بانهيار أسعار طالما صعدت بلا توقف. فهل نحن على أعتاب أزمة كهذه؟ وهل ما يحدث حولنا يتبع نفس القواعد؟
دعونا نتخيل الأمر كبالون يتضخم باستمرار. الفقاعة العقارية ليست سوى هذا البالون الذي يزداد حجمه بشكل مبالغ فيه، فتصعد أسعار العقارات صعوداً صاروخياً لا يعكس أي قيمة اقتصادية حقيقية أو أساس متين. بمعنى أدق، الأسعار بتزيد كده وخلاص، من غير ما يكون في قيمة حقيقية ورا الزيادة دي. هذا الارتفاع الوهمي يتسبب في تضخيم غير مبرر لقيمة الأصول، وعندما يصل هذا البالون إلى أقصى نقطة تمدد له، يصبح قابلاً للانفجار، ليتبع ذلك تدهور حاد ومفاجئ في الأسعار، تاركاً وراءه خسائر فادحة لمن استثمروا في ذروة جنونها.
لماذا تتشكل هذه الفقاعات من الأساس؟ الأسباب متعددة ومتشابكة، تشبه إلى حد كبير المكونات التي تغذي ناراً يصعب إخمادها. في المقام الأول، يأتي “التضخم النقدي”؛ فكلما زادت السيولة النقدية المتوفرة في الاقتصاد، بمعنى آخر “فلوس كتير بتجري في السوق”، يميل الناس للبحث عن ملاذات آمنة لاستثمار أموالهم، والعقارات غالباً ما تكون الخيار الأول، مما يرفع الأسعار بشكل عام. يليه “الطلب المتزايد” الذي يفوق العرض بكثير، وهو عامل حاسم؛ عندما يزداد الإقبال على الشراء دون زيادة مقابلة في عدد الوحدات المتاحة، فإن الأسعار حتماً ستتبع مساراً تصاعدياً. ولا ننسى “السياسات الحكومية” التي قد تلعب دوراً في تحفيز السوق، مثل تقديم تسهيلات ائتمانية سخية أو إعفاءات ضريبية مغرية، مما يشجع المزيد من الأفراد على الشراء ويزيد من الزخم الصعودي. وأخيراً، وليس آخراً، “التوقعات التضخمية”؛ عندما يعتقد الجميع أن أسعار العقارات ستستمر في الارتفاع، يبدأ المستثمرون والأفراد في الشراء كاستثمار آمن أو للتحوط من التضخم، مما يدفع الطلب لأعلى ويغذي الدورة الصعودية، بصراحة الناس بتقول “يلا نشتري قبل ما السعر يزيد أكتر”.
ولكن، هل تنطبق هذه النظريات على واقعنا المصري؟ وهل أسعار العقارات في مصر على وشك أن تنخفض؟ هذا هو جوهر السؤال الذي يشغل بال الكثيرين. في مصر، يبدو المشهد مختلفاً بعض الشيء، على الأقل في المدى القريب، وقد لا نشهد انفجار فقاعة عقارية بالمعنى التقليدي الذي يخشاه البعض. فالأسباب التي تدفع الأسعار للارتفاع هنا عميقة ومتجذرة في الاقتصاد المحلي.
أولاً، هناك “الطلب المتزايد على العقارات متوسطة المستوى”. صحيح أن الاهتمام بالعقارات الفاخرة قد تراجع قليلاً، لكن الشقق السكنية والوحدات ذات الأسعار المعقولة تشهد إقبالاً كثيفاً لا يتوقف. لماذا؟ ببساطة، الزيادة السكانية المستمرة، وتكون أسر جديدة، وحاجة الناس الملحة للسكن، كلها عوامل تخلق طلباً أساسياً لا يمكن تجاهله. الناس بتدور على بيت ليها ولأولادها، مش رفاهية.
ثانياً، “ارتفاع تكاليف البناء” بات عائقاً حقيقياً أمام المعروض. أسعار مواد البناء، مثل الحديد والأسمنت، أصبحت “نار” كما يقولون، وذلك بسبب ارتفاع أسعار المواد الخام المستوردة عالمياً، وتأثير تراجع قيمة الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية. هذا يعني أن المطور يدفع أكثر ليبني، وبالتالي يبيع بسعر أعلى ليحقق هامش ربح مقبول.
ثالثاً، “التضخم العام” الذي نعاني منه يؤثر بشكل مباشر على السوق العقاري. فكلما ارتفعت تكلفة المعيشة وأسعار السلع والخدمات، تزداد أيضاً تكلفة البناء وقيمة الأراضي، مما ينعكس بالضرورة على السعر النهائي للعقار. العقار، في هذه الحالة، يصبح وسيلة للحفاظ على قيمة المال في ظل تآكل القوة الشرائية للنقود.
رابعاً، “زيادة أسعار الأراضي” للمطورين في المناطق الحيوية والرئيسية تشهد ارتفاعات متوالية. هذه الزيادة تمثل جزءاً كبيراً من التكلفة الإجمالية للمشروع، ويتم تمريرها في النهاية إلى المستهلك. يعني المطور بيدفع أكتر على الأرض، طبيعي إنه هيبيع الشقة أغلى.
وفقاً لتقديرات الخبراء، وربما تكون أقرب إلى الواقع، من المتوقع أن تستمر أسعار العقارات في مصر في الارتفاع، وقد تصل الزيادة إلى حوالي 20% خلال العام الحالي. هذا التوقع ليس عبثياً، بل يستند إلى فجوة كبيرة بين العرض والطلب في السوق المصري، بالإضافة إلى استمرار ارتفاع أسعار الأراضي والخامات، وهي العوامل التي تحدثنا عنها.
لكن يجب أن نضع في الاعتبار أن توقعات أسعار العقارات ليست علماً دقيقاً، فهي تتأثر بعوامل متعددة ومتغيرة، مثل السياسات الحكومية والاقتصادية الجديدة، واتجاهات السوق العقاري العالمية والمحلية. فالحكومة قد تتدخل بخطط للإسكان أو تسهيلات للمطورين، وقد تتغير الظروف الاقتصادية العامة بشكل مفاجئ.
في الختام، يبدو أن الأسواق العقارية في مصر تسير على مسار تصاعدي، وربما تشهد استقراراً في هذا الارتفاع المستمر بدلاً من الانفجار المفاجئ الذي يخشاه البعض. هذا لا يعني الاستخفاف بالوضع، بل يدعو إلى اليقظة. فالمستثمرون ومن يرغبون في شراء العقارات يجب عليهم مراقبة السوق العقارية عن كثب ومتابعة التطورات الاقتصادية بكل دقة لاتخاذ قرارات مدروسة ومستنيرة. بصراحة، لازم الواحد يبقى “مفتح عينه كويس” قبل أي خطوة كبيرة زي دي. فالعقار لا يزال يُعتبر من الاستثمارات الشائعة والآمنة نسبياً في بيئة اقتصادية متقلبة، نظراً لقدرته على الاحتفاظ بقيمته وتوفير دخل ثابت في كثير من الأحيان. فهل نختار أن نرى في هذا الارتفاع فرصة، أم سنظل نخشى البالون الذي قد ينفجر؟ الأمر يعود لكل منا، وقدرته على فهم لغة الأرقام والسوق.