هل تتحمل جدران الاقتصاد الإسرائيلي المتصدعة المزيد؟ فواتير الحرب باهظة والمستقبل يحمل رياحاً عاتية.
في خضم ضجيج المعارك وتصاعد وتيرة الأحداث، غالباً ما تُنسى الكلفة الحقيقية لأي صراع؛ تلك الفاتورة الباهظة التي تُدفع في صمت، بعيداً عن صخب المدافع. ولطالما ارتبط مفهوم القوة الإسرائيلية بقدرتها العسكرية والاقتصادية على حد سواء، وكأنها جدار صلب لا يهتز. لكن، ماذا لو أخبرتك أن هذا الجدار بدأ يتصدع من الداخل؟ وأن الفاتورة باتت تثقل كاهله بطريقة لم يشهدها من قبل؟
هذا بالضبط ما يلخصه الدكتور نصر الكريم، أستاذ العلوم الاقتصادية بالجامعة العربية الأمريكية، الذي رسم صورة غير مطمئنة للاقتصاد الإسرائيلي، واصفاً التصدعات الراهنة بأنها “غير مسبوقة” وقد بلغت مستويات قياسية بفعل الحرب الدائرة. يعني بالمختصر المفيد، الاقتصاد الإسرائيلي “مش أحسن حاجة” وبيواجه تحديات ضخمة ومخيفة جداً، والحرب دي هي اللي زودت الطين بلة.
لكن، وبالرغم من هذه التحديات الجسيمة، يلاحظ الدكتور الكريم أن إسرائيل لا تزال قادرة على مواصلة عملياتها العسكرية حتى اللحظة. والسر في ذلك يكمن في عاملين رئيسيين: الأول هو امتلاكها لقاعدة اقتصادية ديناميكية ومتماسكة كانت راسخة قبل بدء العدوان، ما أعطاها متانة أولية. أما الثاني، والأكثر أهمية، فهو الغطاء الهائل الذي توفره المساعدات الأمريكية، التي تتدفق عليها بلا هوادة، بالإضافة إلى قدرتها المستمرة على الاقتراض لتمويل العجز المتزايد. يعني نقدر نقول إن “أمريكا ساندة جامد”، وده اللي مخلي الوضع لسه مستمر بالرغم من كل الصعوبات.
هذه القدرة على الاستمرارية ليست بلا ثمن، بل تحمل كلفة مباشرة متصاعدة. ويسلط أستاذ الاقتصاد الضوء على أن أي قرار بفرض احتلال كامل لقطاع غزة، سيزيد من هذه الأعباء بشكل كبير، ليضيف ما يقرب من 7 مليارات دولار إضافية على الموازنة الإسرائيلية، وهو ما سيرفع العجز إلى رقم خطير يصل إلى 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي. تخيل معي، كأنك تحمل حقيبة سفر ضخمة وفجأة يطلب منك إضافة 7 كيلوغرامات أخرى إليها! الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فالدين العام يتضخم بشكل يثير القلق، وهو ما يضع الاقتصاد أمام معضلة حقيقية على المديين المتوسط والبعيد، ليست مجرد كبوات عابرة.
إن هذه الأرقام، كما يؤكد الدكتور الكريم، لا تمثل مجرد تحديات مالية عابرة، بل هي “تحدٍ هيكلي غير مسبوق”. ويتفاقم الوضع في ظل نزوح رؤوس الأموال المحلية والأجنبية، التي بدأت تغادر إسرائيل بحثاً عن بيئات أكثر استقراراً وأماناً. هذا التراجع الواضح في البيئة الاستثمارية يخلق حالة من الجمود الاقتصادي، ويجعل المستثمرين يفضلون الابتعاد، وكأنهم يرون لوحة “خطر، ممنوع الاقتراب” مكتوبة بوضوح على أبواب الاستثمار في إسرائيل.
لم يكن الدكتور نصر الكريم وحده من يرى هذه الصورة القاتمة. فقد أيده في رؤيته الإعلامي أحمد سالم، مقدم برنامج “كلمة أخيرة” على شاشة قناة أون، الذي أكد أن الصورة الوردية التي يحاول البعض تصديرها بشأن قدرة إسرائيل على الاستمرار في الحرب بلا نهاية هي صورة “غير دقيقة على الإطلاق”. فالاقتصاد الإسرائيلي، بحسب سالم، يواجه “واحدة من أسوأ أزماته منذ سنوات”، وهذا كلام واضح وصريح لا يحتمل التأويل.
وأشار سالم إلى أن الدعم الأمريكي غير العادي لإسرائيل، وإن كان حيوياً، لا يعني بأي حال من الأحوال أن اقتصادها ينعم بالرخاء أو الاستقرار. بل على العكس، “الأرقام وحدها تكشف حجم الأزمة”، وهذا بيت القصيد. فاللغة الوحيدة التي لا تكذب هي لغة الأرقام.
ما هي هذه الأرقام الصادمة يا ترى؟ يوضح الإعلامي أن معدل النمو في الاقتصاد الإسرائيلي لم يتجاوز 3% فقط، وهو رقم منخفض يعكس حالة تباطؤ واضحة. وفي الوقت نفسه، بلغ عجز الموازنة 5.2% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مؤشر خطير على عدم التوازن المالي. أما الكلفة الإجمالية للحرب حتى الآن، فقد وصلت إلى رقم مهول يبلغ 67 مليار دولار! هل نتخيل حجم هذا المبلغ؟ إنه رقم يكفي لإطلاق مشاريع تنموية ضخمة كان يمكن أن تغير وجه دول بأكملها، لكنه هنا يذهب لتغطية أعباء صراع دامي.
يختتم الدكتور نصر الكريم تحليله بتأكيد حاسم: “إن قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على التحمل الحالي لا تعني استمراره على الوتيرة نفسها مستقبلاً”. فالسؤال الأهم اليوم، والذي يطرح نفسه بقوة، هو: “إلى متى يستطيع الاقتصاد الإسرائيلي أن يمتص هذه الصدمات المتلاحقة؟” خاصة في ظل مؤشرات متدهورة باستمرار وبيئة استثمارية باتت طاردة بشكل متزايد.
ربما آن الأوان للنظر إلى ما وراء الدعاية والخطابات، والانتباه إلى الأرقام الصارمة التي لا تجامل ولا تبالغ. ففي نهاية المطاف، لا يمكن لأي اقتصاد، مهما بدا قوياً، أن يتحمل نزيفاً مالياً بلا نهاية، أو أن يتجاهل تصدعات بنيوية تزداد اتساعاً. إنها معركة أخرى تدور رحاها في صمت، وقد تكون تداعياتها أعمق وأبعد أثراً مما يتخيله كثيرون. فهل سيصمد الجدار؟ أم أن فواتير الحرب ستلقي بظلالها على مستقبل غير مبشر؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة، ولكن المؤشرات الأولية لا تبشر بخير.