في صباحٍ لم يكن عاديًا على الإطلاق، استيقظت واشنطن العاصمة على مشهدٍ أثار دهشة المارة وشغل الأوساط السياسية والاقتصادية على حد سواء. أمام مبنى الكابيتول المهيب، حيث تُصاغ قوانين الأمة، برز تمثالٌ ذهبيٌ ضخم، يرتفع في شموخٍ يلامس 3.5 أمتار، يجسّد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، لكن المفاجأة لم تكن في حجم التمثال أو لونه البراق فحسب، بل فيما يحمله في يده: عملة “بيتكوين” عملاقة تتلألأ تحت أشعة الشمس. يا ترى إيه الحكاية؟ وإيه سر الظهور الغريب ده؟

هذا التمثال، الذي بدا وكأنه هبط من عالمٍ آخر، ظهر دون سابق إنذار أو إذن رسمي، مما أثار موجة من التساؤلات والفضول. لم تمضِ ساعات قليلة حتى بدأت الخيوط تتكشف؛ فالتحقيقات الأولية أشارت إلى أن وراء هذه المبادرة الجريئة مجموعة مرتبطة بمنصة “Pump.fun” الساخرة للعملات الرقمية، وهي منصة معروفة بأسلوبها غير التقليدي في جذب الانتباه لعالم الكريبتو وإضفاء نوع من الدعابة على كبريات الأحداث.

لم يكتب لهذا المشهد اللافت البقاء طويلًا؛ فخدمة المتنزهات الوطنية الأمريكية تحركت بسرعة البرق، وأزالت التمثال بعد ساعاتٍ معدودة، واصفةً إياه بـ”التعبير الرمزي المؤقت” الذي لم يحصل على التصاريح اللازمة. توقيت العرض كان له دلالته الخاصة؛ إذ جاء قبل ساعات قليلة من إعلان مجلس الاحتياطي الفيدرالي عن خفض مرتقب لأسعار الفائدة، وهو ما دفع بعض القنوات الإخبارية، مثل “ABC7 News”، إلى ربط هذا الظهور المثير للجدل بالتحولات الاقتصادية الكبرى التي تشهدها الساحة العالمية. كأن البيتكوين بيقول: “أنا هنا، بجانب السياسات النقدية التقليدية وبأثر أكبر!”

لكن أصحاب الفكرة لم يكتفوا بالتمثال وحسب. فبالتزامن مع كشف الستار عن التمثال الذهبي، أطلقوا عملة رقمية جديدة أطلقوا عليها اسم “DJTGST”، وهي اختصار لعبارة “Donald J. Trump Golden Statue Token” أي “رمز تمثال دونالد جيه ترامب الذهبي”. هذه العملة دخلت أسواق التداول المشفرة فورًا، ليرى الجميع صعودًا وهبوطًا حادًا لقيمتها. لكن بصراحة كده، فرحة اللي اشتروها ما كملتش، فالصور التي انتشرت كالنار في الهشيم على منصات التواصل الاجتماعي أظهرت انهيارًا سريعًا في سعرها منذ الساعات الأولى لإطلاقها. ده غير إن القائمين على المشروع عملوا حساب مخصوص على منصة “إكس” (تويتر سابقًا) لتوثيق أخبار التمثال والمطالبة بإعادة عرضه في أماكن أيقونية أخرى زي “تايمز سكوير” أو “وول ستريت”.

هذا المشهد، رغم غرائبيته وسرعة زواله، لم يكن سوى تجلٍ آخر لعلاقة دونالد ترامب المتغيرة والمتنامية مع عالم العملات الرقمية. فلنتذكر قليلًا: في عام 2019، وصف ترامب البيتكوين صراحةً بـ”الاحتيال” الذي يهدد استقرار الدولار. هل يمكن أن يتخيل أحد هذا التحول الجذري في موقفه؟ لكن مع عودته المحتملة إلى البيت الأبيض مطلع عام 2025 – بناءً على تطورات القصة في هذا السيناريو الافتراضي – انقلب موقفه رأسًا على عقب. لم يكتفِ بتغيير لهجته، بل أعلن عن تأسيس “الاحتياطي الاستراتيجي للبيتكوين”، وهو مخزون رقمي حكومي غير مسبوق عالميًا، في خطوة لم يسبقه إليها أحد. كما استضاف أول قمة رسمية في البيت الأبيض لمناقشة مستقبل الكريبتو، مؤكدًا رغبته في أن تصبح الولايات المتحدة “عاصمة الكريبتو في العالم”. يعني من الآخر كده، الراجل ده عمل نقلة نوعية في موقفه تجاه العملات المشفرة.

هذه الخطوات الرسمية المتسارعة لم تكن بمعزل عن دخول عائلة ترامب نفسها على خط العملات الرقمية. فشركات مثل “World Liberty Financial” و”American Bitcoin”، المرتبطة بعائلة الرئيس، أطلقت بدورها عملات ورموزًا مشفرة، أثارت جدلًا واسعًا بشأن شفافيتها والعوائد المتوقعة منها. التقارير الصحفية لم تتوانَ عن كشف المستور؛ فقد أوردت أن بعض هذه المشاريع جمعت مئات الملايين من الدولارات، وأن نسبة كبيرة من الرموز ظلت في حوزة الشركة نفسها، مما أثار مخاوف حقيقية من تضارب المصالح بين السياسات الحكومية الطموحة والمصالح التجارية الخاصة للعائلة. هل هذا مجرد صدفة أم استثمار ذكي لتوقعات السوق؟

لفهم عمق هذا التحول، لابد لنا من لمحة سريعة على رحلة البيتكوين نفسها. فمن كان يصدق أن العملة الرقمية التي ولدت في عام 2008، على يد شخص أو مجموعة مجهولة تحمل اسم “ساتوشي ناكاموتو”، بورقة بحثية عنوانها “بيتكوين: نظام نقدي إلكتروني يعتمد على الند للند”، ستصبح جزءًا من النقاش السياسي والاقتصادي على أعلى المستويات؟ في يناير 2009، تم تعدين أول كتلة في شبكة البيتكوين، التي عُرفت باسم “كتلة التأسيس”. وبعدها بعام واحد، اشتهرت أول معاملة عملية في تاريخ العملة، عندما اشترى المبرمج لازلو هانيتش قطعتي بيتزا مقابل عشرة آلاف بيتكوين، في حدث أصبح يُعرف لاحقًا بـ”يوم البيتزا”.

هذه كانت مجرد البداية. على مدار السنوات التالية، انتقل البيتكوين من مجتمع صغير من المبرمجين والمهتمين بالتشفير إلى ساحة أوسع جذبت المستثمرين والمضاربين، وصولًا إلى تخطي حاجز الألف دولار عام 2013، ثم الارتفاعات الصاروخية التي تجاوزت 19 ألف دولار في 2017، وأخيرًا حاجز الستين ألف دولار في 2020-2021، مدفوعًا بدخول شركات عملاقة مثل تسلا وصناديق استثمار كبرى. في هذه الرحلة المتقلبة، انقسمت الحكومات حول العالم في كيفية التعامل معها، فالسلفادور اعتمدتها كعملة رسمية، بينما فرضت الصين حظرًا شاملًا. وفي الولايات المتحدة، ظل الموقف متأرجحًا بين التشديد الرقابي واعتبارها أصلًا استثماريًا مشروعًا، حتى جاء ترامب بموقفه الجديد ليقلب الطاولة.

التمثال الذهبي، الذي لم يدم طويلًا في المشهد، قدم لنا صورة مكثفة لتداخل معقد بين السياسة والاقتصاد والفن. هل هو مجرد عرض فني ساخر، أم إشارة قوية لمستقبل تتشابك فيه العملات الرقمية مع الهيمنة السياسية والاقتصادية؟ بالنسبة لمؤيدي ترامب، كان هذا التمثال بمثابة إعلان صريح عن اعتراف جاد بدور البيتكوين كأداة مالية مشروعة، بينما رآه خصومه مسرحية سياسية مبالغ فيها، تهدف إلى تضخيم صورة الرئيس دون معالجة الإشكالات التنظيمية الحقيقية المرتبطة بالكريبتو. وبين هذا وذاك، يبقى المشهد بأكمله مؤشرًا لا لبس فيه على أن العملات الرقمية لم تعد موضوعًا ماليًا بحتًا يناقش في أروقة البنوك والأسواق فقط. لا يا حبيبي، ده بقى جزء لا يتجزأ من النقاش السياسي والاقتصادي، وصراع القوى الكبرى، بل وحتى الصراعات الانتخابية في الولايات المتحدة.

فماذا يعني هذا التحول الجذري في المواقف السياسية تجاه البيتكوين بالنسبة لنا كمواطنين أو مستثمرين؟ وهل سنشهد قريبًا دولًا أخرى تحذو حذو أمريكا في تبني احتياطيات استراتيجية من العملات الرقمية؟ وهل هذا هو الفجر الجديد للتمويل العالمي، أم مجرد موجة أخرى من المضاربات التي قد تنتهي برمال متحركة؟ أسئلة كثيرة تتطلب منا جميعًا أن نتابع المشهد عن كثب، فما بدأ كتمثال ذهبي في واشنطن قد يكون مؤشرًا على تغييرات عميقة قادمة في عالمنا.

Leave a Comment

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.