قد لا يثير الحديث عن أسعار الغاز الطبيعي اهتمام الجميع للوهلة الأولى، لكنه في الواقع مؤشر حيوي يعكس الكثير عن نبض الاقتصاد العالمي وحالة الطقس المتقلبة. يوم الإثنين الماضي، الموافق الثاني والعشرين من سبتمبر 2025، كان هذا المؤشر يرسل إشارات واضحة لمراقبي الأسواق، فقد شهدت العقود الآجلة الأمريكية للغاز الطبيعي تسليم شهر أكتوبر هبوطًا ملحوظًا، لتسجل أدنى مستوياتها في أكثر من ثلاثة أسابيع. هل هي مجرد حركة سعرية عابرة، أم أنها قصة أعمق تحكيها لنا قوى العرض والطلب؟
بكل بساطة، تراجعت أسعار الغاز الطبيعي (XNG/USD) بنسبة 1.1% خلال التداولات الأوروبية، ليستقر السعر عند مستوى 2.93 دولار لكل مليون وحدة حرارية. هذا الانخفاض، وإن بدا طفيفًا للبعض، فهو يمثل نقطة محورية، حيث لم يلامس السعر هذا المستوى المتدني منذ أكثر من واحد وعشرين يومًا. وبصراحة، لما يوصل السعر للمستوى ده، المستثمرين بيبدأوا يقلقوا، خصوصًا إن الغاز الطبيعي يعتبر عصب صناعات كتير وتدفئة الملايين.
لكن ما الذي يقف وراء هذا الهبوط؟ الإجابة لا تكمن في عامل واحد، بل في تضافر مجموعة من الظروف التي رسمت هذا المشهد السعري. في صدارة هذه الأسباب تأتي وفرة المخزونات الأمريكية وتوقعات الطقس الأكثر اعتدالاً. تخيل كده إنك عندك مخزن مليان على آخره بمنتج معين، وفي نفس الوقت، الطلب عليه مش كبير بسبب عوامل موسمية. النتيجة الطبيعية هي إن سعره هينزل، صح؟ ده بالظبط اللي بيحصل في سوق الغاز.
وقد أكدت بيانات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية الأسبوع الماضي هذا الفائض بوضوح. ففي الأسبوع المنتهي في الثاني عشر من سبتمبر، سجلت المخزونات زيادة غير متوقعة بلغت حوالي 90 مليار قدم مكعب. هذا الرقم ليس مجرد رقم عادي، بل يتجاوز بكثير مستوى العام الماضي الذي بلغ 56 مليار قدم مكعب، وأيضًا متوسط الخمس سنوات الذي كان عند 74 مليار قدم مكعب. يعني باختصار، المخازن مكدسة بشكل استثنائي.
ولكي نفهم أصل هذه الوفرة، علينا أن نعود قليلاً بالزمن. فالإنتاج القياسي الذي سجلته الولايات المتحدة في وقت سابق من العام الجاري 2025، كان له دور محوري في ملء هذه المخازن إلى مستويات غير مسبوقة. وكما نعلم، لكل فعل رد فعل، وهذا الإنتاج المرتفع تزامن مع درجات حرارة معتدلة نسبيًا في أجزاء واسعة من البلاد، مما قلل بشكل طبيعي من الحاجة إلى الغاز سواء للتدفئة في الأيام الباردة أو للتبريد في الأيام الحارة. يعني الجو كان ماشي معانا، بس على حساب سعر الغاز.
ورغم أن هناك تراجعًا طفيفًا في إنتاج الولايات الـ 48 السفلى، حيث وصل المتوسط اليومي في سبتمبر إلى 107.4 مليار قدم مكعب مقارنة بذروة أغسطس البالغة 108.3 مليار قدم مكعب يوميًا، وانخفاض صادرات الغاز الطبيعي المسال إلى 15.7 مليار قدم مكعب يوميًا، إلا أن هذه التراجعات لم تكن كافية لإحداث فارق جوهري في معادلة العرض والطلب. فالقاعدة الكبيرة للمخزونات والإنتاج السابق لا تزال تلقي بظلالها، مما يُبقي السوق يعاني من فائض واضح في الإمدادات. وهل يتوقف الأمر عند هذا الحد؟ لا طبعًا. فالرياح لا تجري بما تشتهي سفن “الثيران” (المتفائلين بصعود الأسعار)؛ إذ تشير التوقعات إلى استمرار الطقس الأدفأ من المعتاد حتى الرابع من أكتوبر المقبل، مما يعني استمرار ضعف الطلب على المدى القريب، ويضيف ضغطًا بيعيًا آخر على الأسعار. وده بيخلي الناس اللي كانت بتفكر في الشراء تستنى شوية، يمكن ينزل أكتر.
إذا ألقينا نظرة فنية على حركة سعر صرف الغاز الطبيعي الأمريكي على الإطار الزمني لأربع ساعات، نجد أن السعر يتداول ضمن حركة صاعدة، ولكنها محصورة في قناة بين مستويات 2.88 و3.19 دولار. حاليًا، يتداول الزوج قرب مستوى 2.93 دولار، بعد ارتداد طفيف من قاع القناة السفلي. المتوسط المتحرك لمدة 28 فترة يقف حائلاً عند 3.01 دولار، مشكلاً أولى العقبات أمام أي محاولة للتعافي. أما مؤشر القوة النسبية (RSI)، فيتحرك عند حوالي 43 نقطة، مما يشير إلى تعافٍ محدود من حالة “التشبع البيعي” التي لامسها عند 38 نقطة في الجلسات السابقة. وكأن المؤشرات دي بتقولنا، “أيوه السعر نزل كتير، بس لسه مفيش زخم كافي للارتداد القوي.”
وفي ضوء كل هذه المعطيات، تتجه الأنظار إلى السيناريوهات المحتملة. فإذا فشل السعر في الإغلاق أعلى مستوى 2.95 دولار، وهو مستوى مقاومة نفسي وفني مهم، فقد يستمر الضغط البيعي ليسحب السعر نحو مستويات الدعم التالية عند 2.88 دولار، وقد يمتد الهبوط إلى 2.74 دولار في حالة تفاقم الأمور. أما إذا نجح “الثيران” (المشترون) في اختراق مستوى 2.95 دولار والثبات أعلى المتوسط المتحرك عند 3.01 دولار، فقد نشهد ارتدادًا قد يدفع السعر لاختبار مستويات 3.06 دولار ثم 3.13 دولار.
في الختام، يُعد سوق الغاز الطبيعي مثالًا حيًا على كيفية تفاعل العوامل الاقتصادية والجيوسياسية وحتى المناخية لتشكيل مشهد أسعار الطاقة. فالوفرة الناتجة عن الإنتاج القياسي، مقترنة بالطقس المعتدل الذي يحد من الطلب، قد أدت إلى هذا التراجع الملحوظ. وهذه ليست مجرد أرقام على الشاشات، بل هي انعكاس لتغيرات قد تؤثر على تكاليف الطاقة للمنازل والصناعات، وعلى استراتيجيات الاستثمار لكبريات الشركات. فهل سيتمكن السوق من استعادة توازنه مع اقتراب فصل الشتاء، أم أن عوامل أخرى ستظهر لتغير المسار؟ هذا ما سيكشفه لنا الوقت، ففي سوق الطاقة، الميزان دائمًا ما يميل لجانب أو آخر بتأثيرات خفية وظاهرة.