في عالم تتراقص فيه المؤشرات الاقتصادية على إيقاع التقلبات اليومية، وتتغير فيه خريطة الاستثمار أسرع من أي وقت مضى، يبقى هناك ملاذ آمن واحد يلوح في الأفق للكثيرين: الذهب. هذا المعدن النفيس، الذي لطالما كان رمزًا للثروة والاستقرار، يشهد اليوم قفزات تاريخية في الأسعار، مدفوعًا بعوامل عالمية ومحلية معقدة، تضع المستثمرين والمواطنين على حد سواء أمام تحديات جديدة وفرص محتملة. لكن، وقبل أن نتعمق في أسباب هذا الصعود الصاروخي، دعنا نتوقف عند تطور فريد من نوعه يلامس جيوب المصريين مباشرة: إضافة تكاليف تصنيع للسبائك الذهبية الصغيرة.

تخيل معي للحظة، أن سبيكة الذهب التي كانت تعتبرها وسيلة استثمارية خالصة، لا تحمل سوى قيمة المعدن الثمين، أصبحت الآن تُكلفك “مصنعية” إضافية. هذا هو المشهد الجديد الذي يواجهه السوق المصري. فبعد أن كانت السبائك الذهبية، خصوصًا ذات الأوزان الخفيفة، ملاذًا استثماريًا مباشرًا وبعيدًا عن تكاليف التصنيع المرتفعة التي تضاف على المشغولات، أصبحت الآن تحمل عبئًا إضافيًا يتراوح بين 70 إلى 185 جنيهًا، حسب وزن السبيكة ونوعها. ده تغيير كبير، صح؟ يعني الواحد لو عايز يحافظ على قيمة فلوسه في ذهب، لازم يحط في اعتباره التكلفة الإضافية دي.

ولم يقتصر الأمر على المصنعية فقط؛ فالأسعار الإجمالية للذهب شهدت طفرة مذهلة في الأيام الأخيرة، لتعكس واقعًا اقتصاديًا جديدًا. فعلى سبيل المثال، سجل جرام الذهب عيار 24، الذي يعد الأنقى والأعلى جودة، مستوى 5726 جنيهًا. أما عيار 21، الشائع والمفضل لدى قطاع عريض من المصريين والمستخدم في معظم المشغولات، فقد تجاوز حاجز الـ 5000 جنيه ليقف عند 5010 جنيهات. حتى عيار 18، الذي يتميز بجمالياته ومرونته في الصياغة، لم يسلم من هذا الصعود، مسجلاً 4294 جنيهًا للجرام الواحد. أما “الجنيه الذهب”، الذي يعتبره الكثيرون مقياسًا مهمًا للادخار، فقد تخطى حدود الـ 40 ألف جنيه، ليستقر عند 40080 جنيهًا. أرقام، بكل صراحة، لم نكن نتوقع رؤيتها بهذه السرعة، وتثير تساؤلات كثيرة حول المستقبل.

هذه القفزة القياسية في الأسعار بالسوق المحلية ليست سوى انعكاس مباشر للارتفاع الجنوني الذي شهده المعدن الأصفر عالميًا. مع بداية الأسبوع، ارتفعت أونصة الذهب العالمية لتسجل مستوى تاريخيًا جديدًا عند 3722 دولارًا، بعد أن صعدت بنسبة 0.9% خلال تعاملات اليوم مقارنة بافتتاحها عند 3687 دولارًا، لتتداول حاليًا قرب 3718 دولارًا للأونصة. هذا الرقم لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج لشبكة معقدة من القرارات الاقتصادية العالمية، وتحركات البنوك المركزية، والتوجهات الاستثمارية الكبرى. فما الذي يدفع الذهب نحو هذه القمم الشاهقة؟

يكمن جزء كبير من الإجابة في واشنطن، وتحديدًا في اجتماعات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. فقد أقدم البنك المركزي الأقوى في العالم، الأسبوع الماضي، على خطوة مهمة تمثلت في خفض أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس. ناس كتير ممكن تسأل، وإيه علاقة ده بالذهب؟ بص يا سيدي، لما الفايدة بتقل، بيصبح الاحتفاظ بالأصول التي لا تدر عائدًا مثل الذهب أكثر جاذبية، لأن تكلفة الفرصة البديلة للاستثمار في أدوات أخرى مثل السندات تنخفض. يعني، كأنك بتختار بين فلوس هتجيب لك عائد قليل جدًا، أو إنك تستثمر في حاجة بتحافظ على قيمتها وممكن تزيد.

لم يكتفِ الفيدرالي بهذا القدر، بل ألمح كذلك إلى إمكانية اللجوء إلى مزيد من “التيسير الكمي” خلال الفترة المقبلة، وهي سياسة تهدف إلى ضخ السيولة في الأسواق. وكما يوضح تحليل “جولد بيليون” المتخصص، بدأت الأسواق بالفعل في تسعير هذه السياسة النقدية الجديدة للفيدرالي، مع توقعات واسعة بخفضين إضافيين للفائدة هذا العام، تحديدًا في شهري أكتوبر وديسمبر، وباحتمالية قوية جدًا بلغت 93% و81% على التوالي. يعني الموضوع مش مجرد تكهنات، بل هو أقرب إلى مسار محدد يتوقعه المحللون الكبار.

وإذا كانت قرارات البنوك المركزية تمثل قوة دفع أساسية، فإن شهية الشراء التي لا تتوقف من قبل اللاعبين الكبار في الاقتصاد العالمي تزيد الطين بلة – أو بالأحرى، تزيد بريق الذهب. البنوك المركزية الكبرى حول العالم، وصناديق الاستثمار المدعومة بالذهب، تستمر في تعزيز مراكزها في هذا المعدن النفيس، وذلك في إطار سعيها لتنويع احتياطاتها وحماية أصولها من تقلبات الأسواق والتضخم. هذه المشتريات الضخمة تزيد الطلب العالمي على الذهب بشكل غير مسبوق، وتبعث برسالة واضحة للمستثمرين الصغار: الذهب ما زال الملاذ. ليس هذا فحسب، بل إن بعض المؤسسات المالية تتوقع أن يصل سعر الأونصة إلى 4000 دولار على المدى القريب إلى المتوسط. هل نحن على أعتاب عهد ذهبي جديد؟

أما على الصعيد المحلي، فالصورة لا تكتمل دون الإشارة إلى عامل حيوي يؤثر بشكل مباشر على تسعير الذهب في مصر: سعر صرف الدولار مقابل الجنيه المصري. بصراحة، العلاقة بين الاثنين علاقة طردية وواضحة زي الشمس. مؤخرًا، شفنا الدولار بدأ يرفع راسه تاني بالتدريج في البنوك الرسمية، وهو ما أضاف زخمًا قويًا آخر لصعود الذهب المحلي، ليأتي كداعم إضافي للارتفاع العالمي. يعني تقدر تقول إن الذهب في مصر ماشي على خطين متوازيين في الصعود: واحد عالمي بسبب سياسات الفيدرالي وشهية الشراء، والتاني محلي بسبب تحركات سعر الدولار. وده اللي بيخلي أي مستثمر أو حتى أي شخص عايز يحافظ على قيمة مدخراته، يبص للدولار والذهب بعين واحدة، فاهم قصدي؟ الاتنين مرتبطين ببعض بشكل لا يمكن فصله في السوق المصري.

في ظل هذه التطورات المتسارعة، يترقب المستثمرون حول العالم بقلق نتائج بيانات التضخم الأمريكية المرتقبة، بالإضافة إلى خطابات مسؤولي الفيدرالي التي غالبًا ما تحمل إشارات خفية عن التوجهات المستقبلية للسياسة النقدية. أما هنا في مصر، فالتركيز ينصب على متابعة سلوك الدولار وتحركات أسعار الذهب لحظة بلحظة. التوقعات السائدة تشير إلى استمرار هذه الحالة من الصعود القياسي للذهب في مصر خلال الفترة المقبلة، خاصة إذا ما واصل المعدن النفيس تسجيل قمم جديدة في الأسواق العالمية. هل سيستمر هذا الذهب في بريقه، أم أن هناك مفاجآت أخرى في الأفق؟ وحده الزمن كفيل بالإجابة، لكن الثابت أن الذهب سيظل دائمًا ملاذ الأمان للكثيرين في أوقات الاضطراب الاقتصادي، وكأن الناس بتقول: “يا ذهب، ما لنا غيرك في الأيام دي”.

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.