في صباح يوم الاثنين، الثاني والعشرين من سبتمبر لعام 2025، بدا المشهد في أروقة البنوك المصرية وكأنه يرتسم بلوحة هادئة، خالية من التلاطم الذي اعتادته أسعار العملات. لم يكن الأمر مجرد استقرار عابر، بل كان تأكيداً لتمركز سعر الدولار الأمريكي عند نقطة فارقة، تحديداً عند حدود الثمانية والأربعين جنيهاً مصرياً، وذلك منذ بداية التعاملات. فهل هذا الهدوء المؤقت مجرد استراحة محارب، أم أنه بشير لمرحلة جديدة من الاستقرار طال انتظارها؟
هذا الرقم، 48 جنيهاً، لم يعد مجرد عدد على شاشات الصرافة، بل أصبح محط أنظار الجميع؛ من المستورد الذي يخطط لصفقاته، إلى المواطن العادي الذي يراقب القدرة الشرائية لجنيهاته. ما حصل اليوم، أو بالأحرى ما لم يتغير، هو إشارة واضحة لاستمرار الثبات الذي يشهده السوق منذ فترة، مع اختلافات طفيفة بين البنوك، تكاد لا تُذكر في سياق التقلبات التي شهدناها سابقاً.
دعونا نغوص في التفاصيل أكثر، لنرى كيف انعكس هذا الثبات على أرض الواقع البنكي. جاءت مقدمة البنوك في تحديد السعر عند مصرف أبوظبي الإسلامي، حيث سجل الدولار أعلى مستوياته للشراء بسعر 48.30 جنيهاً، وللبيع عند 48.40 جنيهاً. وهذا يعطينا لمحة عن الطرف الأكثر “جرأة” في التسعير، إن صح التعبير، ضمن المنافسة البنكية. فكل بنك، بطبيعة الحال، يسعى لجذب العملاء وفق سياسته ورؤيته للسوق، وأحياناً تكون هذه الفروق الطفيفة هي ما يصنع الفارق للمستثمرين أو الشركات الكبرى.
في المرتبة الثانية من حيث السعر، لوحظ أن عدة بنوك، منها بنك نكست، قد عرضت سعراً للشراء عند 48.20 جنيهاً، وللبيع عند 48.30 جنيهاً. هذه الفروقات البسيطة، والتي لا تتعدى عشرة قروش، تُظهر أن التنافسية لا تزال قائمة، لكنها في إطار ضيق ومحكوم، وكأن هناك “سقفاً” و”أرضية” غير معلنين للسوق تلتزم بهما معظم المؤسسات المالية. وهذا بحد ذاته مؤشر إيجابي على انضباط السوق.
أما عن الطرف الأدنى في سلم التسعير اليوم، فقد سجل بنك الكويت الوطني أدنى سعر للعملة الأمريكية، حيث بلغ سعر الشراء 48.09 جنيهاً، والبيع 48.19 جنيهاً. وهذا التباين، وإن كان محدوداً، يعكس ديناميكية السوق وكيف أن كل بنك قد يرى تقييمه الخاص بناءً على سيولته ومحفظته، لكن الفارق الأكبر لم يتجاوز الـ 21 قرشاً بين أعلى وأدنى سعر للشراء، وهذا فرق “يا دوبك” يعني أنه لا توجد فجوات كبيرة يمكن استغلالها للمضاربة بشكل ملحوظ.
ولكي نحصل على صورة أوضح، يمكننا النظر إلى متوسط السعر السائد في السوق. فقد استقر متوسط سعر العملة الأمريكية أمام الجنيه المصري عند 48.18 جنيهاً للشراء، و48.28 جنيهاً للبيع، في عدة بنوك منها بنك فيصل. وهذا المتوسط هو ما يعتمد عليه كثيرون كمؤشر عام للحالة الاقتصادية، فهو يعكس “الوضع الطبيعي” أو ما يمكن وصفه بسعر التوازن الذي ارتضاه السوق.
ماذا عن البنوك الحكومية، تلك التي تعتبر ذراع الدولة الاقتصادية ومقياساً حقيقياً لتوجهاتها؟ سجلت البنوك الكبرى مثل البنك الأهلي المصري، وبنك مصر، وبنك القاهرة، سعراً موحداً للدولار عند 48.18 جنيهاً للشراء، و48.28 جنيهاً للبيع. هذا التوافق في الأسعار بين أكبر ثلاثة بنوك حكومية هو رسالة قوية على التنسيق والالتزام بسياسة نقدية موحدة، وهو ما يبعث على الطمأنينة في نفوس المتعاملين ويقلل من حالة عدم اليقين.
ولم يكن البنك التجاري الدولي (CIB)، الذي يعتبر أكبر بنك خاص في مصر، بعيداً عن هذا التوجه، حيث سجلت العملة الأمريكية لديه نفس سعر البنوك الحكومية؛ 48.18 جنيهاً للشراء، و48.28 جنيهاً للبيع. وهذا التماثل بين القطاعين العام والخاص في التسعير يؤكد أن هناك اتفاقاً ضمنياً حول القيمة العادلة للدولار في الوقت الراهن، وهو ما يعتبر خطوة مهمة نحو سوق عملات أكثر نضجاً وشفافية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه دائماً: إلى متى سيستمر هذا الاستقرار؟ وما هي العوامل التي قد تغير هذا المسار؟ هنا، يبرز دور لجنة السياسة النقدية في البنك المركزي المصري. فقرارات هذه اللجنة هي التي ترسم ملامح المستقبل النقدي للبلاد، وهي التي تتحكم في أدوات السياسة النقدية التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على سعر الصرف.
وفقاً للجدول المعلن لاجتماعات اللجنة لعام 2025، لا يزال هناك ثلاثة اجتماعات مرتقبة قبل نهاية العام. الاجتماع القادم سيكون في الثاني من أكتوبر، ثم يليه اجتماع في العشرين من نوفمبر، وأخيراً، الاجتماع الختامي للعام في الخامس والعشرين من ديسمبر. كل اجتماع من هذه الاجتماعات يحمل في طياته إمكانية تغيير أسعار الفائدة أو اتخاذ قرارات أخرى قد تؤثر على شهية المستثمرين للدولار أو تزيد من جاذبية الجنيه.
في النهاية، يمكن القول إن استقرار سعر الدولار عند هذا المستوى يعكس جهوداً متواصلة لضبط السوق، وربما يكون مؤشراً على سياسة نقدية أكثر استباقية وفاعلية. ولكن هل هذا يعني أننا تجاوزنا مرحلة التحديات؟ طبعًا لأ. السوق الاقتصادي زي البحر، ممكن يبقى هادي شوية، لكن التقلبات واردة في أي وقت. ومع كل اجتماع للبنك المركزي، ومع كل تطورات اقتصادية عالمية، تبقى الأسئلة مفتوحة والتوقعات معلقة. هذا الاستقرار الحالي يمنحنا فرصة لالتقاط الأنفاس، لكن العيون تظل شاخصة نحو الأفق، ترقبًا لما ستحمله الأيام القادمة من رياح اقتصادية، قد تعزز هذا الثبات أو تدفع به في مسارات جديدة. هل سنشهد استمرارية لهذا الهدوء أم أننا على موعد مع فصول جديدة من التحديات؟ الأيام القادمة وحدها من ستكشف المستور.