هل أصبحت أحلام امتلاك منزل مجرد سراب في مصر؟ وهل فعلاً نحن على وشك فقاعة عقارية قد تودي بمدخرات الكثيرين؟ هذه تساؤلات تتردد في أذهان الملايين، وتُشعل النقاشات في كل مجلس وبيت، خاصة مع الأرقام الفلكية التي نسمع عنها أحيانًا لبعض الوحدات السكنية. لكن يبدو أن الصورة ليست بالبساطة التي نتخيلها، وأن الحقائق قد تكون بعيدة كل البعد عن تلك الشائعات المتداولة.

في محاولة لتصحيح المسار وإعادة البوصلة لوجهتها الحقيقية، خرج المهندس طارق شكري، رئيس غرفة التطوير العقاري باتحاد الصناعات المصرية ووكيل لجنة الإسكان بمجلس النواب، بتصريحات قوية ومفصلة. شكري، الذي يعد أحد أبرز قيادات القطاع، اختار أن يكسر الصمت ويوضح لغز السوق العقاري، مؤكدًا أن الكثير مما يُقال ليس سوى “زوبعة في فنجان” تهدف إلى إثارة البلبلة أكثر مما تعكس واقع السوق المتين.

دعونا نبدأ بـ “أسعار الملايين” التي باتت حديث الساعة. هل سمعت عن فيلا تُباع بنصف مليار جنيه على البحر؟ أكيد سمعت، وبصراحة، أرقام زي دي تخلي الواحد يتخيل إن سوق العقارات ده بقى حكر على الأثرياء بس. لكن شكري يوضح أن هذه الأرقام، التي قد تصل إلى 500 مليون جنيه لفيلا واحدة، لا تمثل سوى حالات استثنائية للغاية. تخيل، يا جماعة، نحن نتحدث عن 50 إلى 100 وحدة فقط، موزعة على ثلاثة أو أربعة مشاريع محددة في الساحل الشمالي، وهي غالبًا ما تُستخدم كأداة تسويقية لجذب الانتباه لا أكثر. يعني بالبلدي كده، دي مش القاعدة، دي الاستثناء اللي مش بيمثل حال السوق العام أبدًا.

ولننتقل إلى السؤال الذي يحير الكثيرين: “كم يكسب المطور العقاري؟” ناس كتير متخيلة إن أرباح المطورين خيالية، وإنهم بيحققوا ثروات من وراء كل وحدة سكنية. لكن شكري يقدم أرقامًا مختلفة تمامًا. الشركات المقيدة في البورصة، وهي الأكثر شفافية وخضوعًا للمراجعة، تحقق هوامش ربحية تتراوح بين 10 و15% فقط. وهذه النسبة ليست صافية وسريعة، بل تمتد على مدار فترة تنفيذ المشروع التي قد تصل إلى أربع أو ست سنوات. والأمر لا يتوقف عند هذا الحد؛ فإذا اضطر المطور للاعتماد على القروض البنكية لتمويل مشروعه، فإن تكاليف التمويل المرتفعة قد تهبط بهذه الأرباح لتصل إلى 7 أو 8%، وربما تتسبب في خسائر في بعض الأحيان. هل هذا ما كنا نتوقعه؟

ولفهم هذه المعادلة بشكل أعمق، كشف شكري عن آلية تسعير الوحدات العقارية في مصر، والتي تتوزع كالتالي: تكلفة الأرض تستحوذ على النصيب الأكبر، بنسبة تتراوح بين 30 و35% من سعر الوحدة. ثم تأتي تكاليف المباني والمرافق وتنسيق المواقع (اللاندسكيب) بنسبة تتراوح بين 35 و45%. أما مصاريف التسويق والبيع فتصل إلى 10%، بينما تُخصص نسبة 3 إلى 5% للمصاريف الإدارية والهندسية. بهذه الحسبة، نجد أن التكلفة الإجمالية للوحدة تصل إلى حوالي 90%، ليبقى هامش الربح الذي تحدثنا عنه سابقًا في حدود 10% فقط. هذه الأرقام تضع تصورًا أكثر واقعية لطبيعة عمل المطورين، وتوضح أن الربح ليس خياليًا كما يتصور البعض.

وماذا عن شبح “الفقاعة العقارية” الذي يطاردنا كل فترة؟ شكري يؤكد بقوة أن السوق العقاري المصري متوازن تمامًا وبعيد كل البعد عن أي فقاعة محتملة. ويرجع سبب هذا التساؤل المتكرر منذ أكثر من ربع قرن إلى عدم فهم طبيعة السوق المحلي، الذي يختلف جذريًا عن أزمات عقارية عالمية، كتلك التي شهدتها الولايات المتحدة عام 2008، حيث تجاوز التمويل العقاري هناك 100% من قيمة الوحدة، وهو ما لم يحدث ولن يحدث في مصر. الطلب هنا حقيقي ومدفوع بزيادة سكانية ضخمة وحاجة أساسية للسكن، وليس مجرد مضاربة عشوائية.

بالتأكيد، شهد عام 2024 استثناءً في المبيعات، وهو ما يفسره شكري بقرارات التعويم المتتالية وارتفاع سعر الدولار، ما دفع المواطنين للجوء للعقار كـ “ملاذ آمن” لحماية مدخراتهم من التضخم. لكن السوق سرعان ما عاد إلى مستوياته المتوازنة في عام 2025، ليعكس أداءً مشابهًا لأعوام 2020-2023. وهذا الاستقرار، يضيف شكري، يظهر في نمو تصدير العقار المصري، الذي قفزت مبيعاته الخارجية من 500 مليون دولار في 2024 إلى 1.5 مليار دولار في 2025، بنسبة نمو قياسية بلغت 200%. أليس هذا مؤشرًا قويًا على الثقة الخارجية في جودة ومستقبل السوق المصري؟

الرؤية الحكومية لا تختلف كثيرًا عن هذا التوجه. فقد كشف شكري عن مخرجات اجتماع رئيس الوزراء مع اللجنة الاستشارية، التي أكدت على ثلاث رسائل جوهرية: أولًا، لا توجد فقاعة عقارية في مصر. ثانيًا، القطاع العقاري قوي ومستمر في النمو. ثالثًا، ضرورة تعزيز التعاون بين الدولة والقطاع الخاص لدفع عجلة التنمية. هذه رسائل طمأنة رسمية تعكس قناعة صناع القرار بمتانة هذا القطاع.

ولكن، ما هو التحدي الحقيقي الذي يواجه المشتري؟ ليس سعر الوحدة في حد ذاته، بل ارتفاع قيمة الأقساط الشهرية. حتى مع فترات السداد الطويلة التي يقدمها المطورون، والتي قد تصل إلى 10 أو 12 سنة، تظل الأقساط عبئًا كبيرًا على الطبقة المتوسطة. ولهذا، كشف شكري عن مقترح جديد للتمويل العقاري قُدم للحكومة، يعتمد على فائدة متدرجة: 8% للوحدات حتى 100 متر، 10% للوحدات بين 100 و150 مترًا، و12% للوحدات الأكبر من 150 مترًا. رئيس الوزراء وعد بمناقشة هذا المقترح قريبًا مع محافظ البنك المركزي، وهو ما قد يمثل طوق نجاة حقيقيًا للعديد من الأسر، ويعزز قدرتهم الشرائية. تخيلوا لو تم تطبيق هذا النظام، كم سيُحرك من المياه الراكدة؟ سينشط السوق، ويزيد من الضرائب والتأمينات، ويخلق فرص عمل جديدة في أكثر من 100 صناعة مرتبطة بالعقار.

في النهاية، لا يمكننا أن نتجاهل أن القطاع العقاري في مصر ليس مجرد مجموعة مبانٍ ووحدات سكنية، بل هو محرك أساسي للاقتصاد الوطني. إنه يوفر فرص عمل مباشرة وغير مباشرة لربع المصريين تقريبًا، ويسهم بأكثر من 20% من الناتج المحلي الإجمالي. إنه مرآة لاستقرار الاقتصاد الكلي، وأي معلومات غير دقيقة يمكن أن تحدث ارتباكًا وضررًا بالغًا، كما حدث في سنوات سابقة شهدت بلبلة مثل 2001 و2008 و2011.

إذًا، هل يمكننا أن ننظر إلى السوق العقاري المصري بعين أكثر تفهمًا بعد هذا العرض الواضح؟ أعتقد أن الوقت قد حان لنتوقف عن الانسياق وراء الشائعات والأرقام المضللة، ونرى الصورة كاملة: قطاع حيوي، متين، مدفوع بطلب حقيقي، ويواجه تحديات يعمل الجميع على حلها، لكنه في المجمل، لا يزال قلعة حصينة لا يُخشى عليها من الانهيار.

Leave a Comment

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.