الرياض: سباق مع الزمن لتهدئة سوق العقارات الملتهب.. هل يعود حلم امتلاك منزل؟
هل تتخيل أن يصبح حلم امتلاك منزل أو حتى استئجار شقة لائقة في قلب العاصمة أمرًا شبه مستحيل؟ هذا ليس خيالاً بعيدًا، بل واقعٌ يواجهه الكثيرون في الرياض، حيث تواصل أسعار العقارات رحلة صعودها الصاروخي، لتضع ضغوطاً غير مسبوقة على كاهل السكان. فما الذي يحدث بالضبط في سوق العقارات السعودية، وما هي الحلول التي بدأت الحكومة تطرحها لتخفيف هذا العبء؟
لسنوات، كانت الرياض محط أنظار الجميع، مركزًا للنمو الاقتصادي ومغناطيسًا للباحثين عن الفرص. لكن مع هذا الزخم، جاءت فاتورة باهظة: سوق عقاري ملتهب تجاوزت فيه الأسعار كل التوقعات. تخيل أن شقة أحلامك قد تضاعف سعرها تقريباً في غضون خمس سنوات فقط! فبحسب تقارير شركة “نايت فرانك” المتخصصة، قفزت أسعار الشقق السكنية في العاصمة بنسبة مذهلة بلغت 96% منذ عام 2019، بينما لم تكن الفلل بمنأى عن هذا الارتفاع، مسجلة زيادة قدرها 53% خلال الفترة ذاتها. أرقام مرعبة بصراحة، لا يمكن تجاهلها.
هذا الارتفاع الجنوني لم يكن بلا ثمن. فمع أن الطلب يظل قوياً، إلا أن القدرة الشرائية للمواطنين تآكلت بشكل ملحوظ. أليس من البديهي أن تتراجع المبيعات عندما تصبح الأسعار خارج متناول الأغلبية؟ بالفعل، انخفضت القيمة الإجمالية لمبيعات المنازل بنسبة 20%، وتراجعت أعداد الصفقات العقارية بنحو 30% خلال الاثني عشر شهراً الماضية. فيصل دوراني، رئيس قسم الأبحاث لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في “نايت فرانك”، يلخص الأمر بوضوح: “وتيرة ارتفاع الأسعار تجاوزت بكثير نمو الرواتب.” هذا التباين خلق فجوة عميقة بين ما يحلم به الناس وما يستطيعون تحقيقه، مما استدعى تدخلاً حكومياً متتابعاً.
أمام هذا المشهد المعقد، لم تقف الحكومة مكتوفة الأيدي. كانت هناك حاجة ماسة لتدخل سريع وحاسم. ومن هنا، جاء القرار الذي أثار نقاشات واسعة: تجميد الزيادة السنوية في إيجارات العقارات السكنية والتجارية داخل الرياض لمدة خمس سنوات كاملة. هل سمعت عن قرار بهذه الجرأة من قبل؟ الهدف واضح ومباشر: تهدئة السوق المشتعل، وتخفيف الضغوط المعيشية على المستأجرين، ومن ثم، إحداث نوع من الاستقرار الذي يحد من التضخم العقاري الجامح. يعني بصراحة، دي خطوة بتطمن الناس اللي كانت قلقانة كل سنة من ارتفاع الإيجار ومش عارفين يعملوا إيه.
لكن تجميد الإيجارات ليس سوى جزء من منظومة إصلاح أوسع نطاقاً. فقبل هذا القرار، كانت الحكومة قد اعتمدت بالفعل اللائحة التنفيذية لرسوم الأراضي البيضاء. ماذا تعني هذه الرسوم؟ ببساطة، تستهدف الأراضي الشاسعة وغير المطورة التي تقع داخل النطاق العمراني للمدن. الفكرة هي محاربة احتكار الأراضي الذي يساهم في ندرة المعروض وارتفاع الأسعار. هل يعقل أن تكون هناك مساحات هائلة من الأراضي الخالية في قلب المدن بينما الناس تعاني من أزمة سكن؟ هذه الرسوم تشجع الملاك على تطوير أراضيهم أو بيعها، وبالتالي، زيادة المعروض من الوحدات السكنية، وهو ما سيساهم في النهاية في تحقيق التوازن المنشود بين العرض والطلب.
قد يتساءل البعض: لماذا كل هذا الطلب الهائل إذا كانت الأسعار بهذا الارتفاع؟ الإجابة تكمن في مكانة الرياض المتنامية كمركز جاذب للسكان ورأس المال. العاصمة السعودية لم تعد مجرد مدينة، بل محرك اقتصادي ضخم. خلال السنوات الخمس الماضية، استأثرت الرياض بنحو 63% من الوظائف الجديدة التي استحدثتها المملكة، مما جعلها قبلة لآلاف الشباب. تخيل أن حوالي ربع مليون شاب سعودي انتقلوا إليها بحثاً عن فرص عمل أفضل وحياة كريمة. أضف إلى ذلك التركيبة السكانية الشابة للمملكة، حيث يشكل من هم دون الخامسة والعشرين 45% من إجمالي السكان. هذا التفوق الديموغرافي يغذي الطلب العقاري بلا انقطاع، فكل هؤلاء الشباب يحتاجون إلى مساكن، سواء للإيجار أو للتملك.
هذا الواقع يفرض تحدياً وفرصة في آن واحد. التقديرات تشير إلى حاجة ماسة لتوفير 830 ألف وحدة سكنية جديدة للمواطنين فقط بحلول عام 2030. رقم ضخم، أليس كذلك؟ هذا الطلب المستقبلي الضخم هو المحرك الرئيسي وراء جهود التطوير العمراني وخطط زيادة المعروض. المملكة لا تسعى فقط لضبط السوق الحالي، بل لتأسيس بنية تحتية سكنية تستوعب النمو السكاني المستقبلي وتلبي طموحات “رؤية 2030” بتحسين جودة الحياة وتوفير السكن الملائم للجميع.
وفي خطوة قد تغير وجه السوق العقاري تماماً، تستعد المملكة لفتح أبوابها للمستثمرين الأجانب لتملك العقارات بدءًا من يناير 2026. هذه نقلة نوعية بكل المقاييس. وفقاً لتقرير شركة JLL، من المتوقع أن يُنعش هذا القرار القطاع العقاري، ويوسع فرص التطوير، ويعزز التدفقات الاستثمارية المباشرة إلى المملكة. لكن الغريب في الأمر، أو خلينا نقول، المثير للاهتمام، إن اهتمام المستثمرين الأجانب لا ينصب بشكل أساسي على الرياض بقدر ما يتجه نحو مكة المكرمة والمدينة المنورة. لماذا؟ لأن الكثير من المسلمين الأثرياء يرون في تملك عقارات في هاتين المدينتين المقدستين قيمة دينية وشخصية عميقة تتجاوز مجرد العائد الاستثماري. يعني الموضوع مش مجرد بيزنس، فيه روحانيات كتير بتلعب دور في قرارات الشراء.
في الختام، يبدو أن المملكة العربية السعودية تخوض سباقًا مع الزمن لإعادة ضبط بوصلة سوقها العقاري. إنها ليست مجرد معالجة لأسعار مرتفعة، بل محاولة لتشكيل سوق أكثر استدامة وإنصافاً يلبي احتياجات جيل الشباب ويستوعب طموحات التنمية الشاملة. القرارات الأخيرة، من تجميد الإيجارات إلى رسوم الأراضي البيضاء، وصولاً إلى فتح الأبواب أمام المستثمرين الأجانب، كلها حلقات في سلسلة واحدة تهدف إلى تحقيق التوازن بين العرض والطلب وتقليل حدة التضخم. فهل ستنجح هذه الإجراءات الجريئة في تحويل حلم السكن الميسور إلى حقيقة واقعة لآلاف السعوديين؟ الأيام القادمة وحدها كفيلة بالإجابة، لكن المؤكد أن المشهد العقاري في المملكة يمر بمرحلة تحول غير مسبوقة، وقد تكون هذه مجرد البداية لمستقبل عقاري أكثر استقرارًا وعدلاً.