تخيل لو استيقظت صباح أحد الأيام لتجد أن “ملاذك الآمن” الوحيد قد اخترق حاجزاً لم يتوقعه أحد، قفزة تاريخية في قيمته تثير الدهشة والقلق في آن واحد. هذا بالضبط ما حدث في أسواق الذهب المصرية يوم الاثنين، الموافق الثاني والعشرين من سبتمبر لعام 2025، حيث سجل عيار 21، الأكثر تداولاً بين الناس، صعوداً مدوياً تجاوز لأول مرة في تاريخه مستوى 5000 جنيه مصري للجرام الواحد عند إغلاق التعاملات. لم تكن مجرد زيادة عادية؛ بل كانت مؤشراً صارخاً على حالة من التقلبات الاقتصادية المتسارعة، وتأكيداً جديداً على مكانة المعدن الأصفر كـ “صمام أمان” في أوقات الشدة.
كان اليوم مشهوداً في محلات الصاغة والأسواق المالية على حد سواء. فالكل كان يترقب، والتساؤلات تتناثر: هل سيستمر الصعود؟ وإلى أي مدى؟ هذه الموجة غير المسبوقة لم تأتِ من فراغ، بل هي حلقة جديدة في سلسلة من الاضطرابات التي يشهدها سوق الذهب منذ بداية العام، والتي تتأثر بشكل مباشر بتطورات البورصات العالمية وحركة سعر صرف الدولار. الأمر ببساطة، إن ما يحدث في واشنطن أو في بورصات آسيا، تجد صداه فوراً في محلات الذهب بشارع عبد الخالق ثروت أو في الصاغة المصرية. يعني بالبلدي كده، اللي بيحصل بره بيسمّع عندنا هنا، والأسعار بتطير.
الأرقام تتحدث.. ارتفاعات قياسية في قلب السوق المصري
لم يقتصر الارتفاع على عيار 21 وحده، بل شمل جميع الأعيرة الأخرى، ليُلقي بظلاله على مختلف أنواع المشغولات الذهبية. وفقاً للبيانات الصادرة عن الشعبة العامة للذهب، والتي تُعد المرجع الأول لأسعار المعدن النفيس في السوق المحلي، جاءت التفاصيل كالتالي:
- سجل سعر جرام الذهب عيار 24 رقماً جديداً وصل إلى 5728 جنيهاً مصرياً.
- أما عيار 21، بطل القصة اليوم، فقد استقر عند 5020 جنيهاً مصرياً للجرام.
- وبالنسبة لعيار 18، الذي يفضله البعض في المشغولات الدقيقة، فقد بلغ 4300 جنيه للجرام.
- وحتى الجنيه الذهب، الذي يُعد خياراً ادخارياً شائعاً، ارتفع ليُسجل 40160 جنيهاً.
طبعاً، هذه الأرقام هي لأسعار الخام، ولابد أن نضع في الاعتبار “المصنعية” التي تُضاف إلى كل جرام. وهي قيمة تختلف من قطعة لأخرى ومن تاجر لآخر، وتتراوح عادة بين 100 و200 جنيه للجرام. يعني لما تروح تشتري، السعر النهائي بيكون أعلى شوية. هذه الزيادة في الطلب، رغم الأسعار الفلكية، تؤكد مدى اعتماد المصريين على الذهب كدرع واقٍ يحمي مدخراتهم في ظل الظروف الاقتصادية المتقلبة.
ما وراء القفزة.. أسباب عالمية بلمسة محلية
لم يكن الصعود حكراً على الأسواق المصرية، بل كان جزءاً من موجة عالمية عارمة دفعت بأسعار الذهب إلى مستويات غير مسبوقة. فوفقاً لوكالة “رويترز” للأنباء، سجلت المعاملات الفورية للذهب على المستوى العالمي 3720 دولاراً للأونصة قبل عطلة نهاية الأسبوع. هذا الارتفاع القياسي لم يكن محض صدفة؛ بل كان مدفوعاً بقرار حاسم اتخذه مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي الأمريكي).
قرار الفيدرالي الأمريكي بخفض أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس كان بمثابة الشرارة التي أشعلت حمى شراء الذهب حول العالم. لماذا؟ ببساطة، عندما تنخفض أسعار الفائدة، تصبح الاستثمارات الأخرى مثل السندات والودائع المصرفية أقل جاذبية، لأن العوائد عليها تقل. وفي هذه اللحظة، يتجه المستثمرون الكبار والصغار على حد سواء نحو الذهب، فهو يُعد ملاذاً تقليدياً آمناً ومخزناً للقيمة في مواجهة تقلبات الأسواق وتراجع عوائد الأدوات المالية الأخرى. إنها آلية دفاع اقتصادية معتادة: “لو فلوسي مش هتجيب عائد كويس في البنك، أحطها في دهب عشان أحميها.”
خبراء الذهب يتوقعون المزيد: إلى أين تتجه الأسعار؟
للوقوف على أبعاد هذه القفزة، التقت “المواطن” بالخبير المتخصص في المشغولات الذهبية، الأستاذ أمير رزق، الذي أوضح أن قرار الفيدرالي الأمريكي، إلى جانب صعود الدولار عالمياً، كان لهما تأثير مباشر وملموس على حركة الذهب محلياً ودولياً. وأكد رزق أن “هذا ما انعكس في الأسعار التي كسرت حاجز الـ 5000 جنيه للجرام داخل مصر، وربما تكون مجرد بداية لموجة صعود جديدة.”
وأضاف الخبير أن “معدلات الطلب المرتفعة من جانب الأفراد في السوق المصري عززت من وتيرة الارتفاعات.” ففي ظل غياب الرؤية الواضحة لمستقبل الأسواق المالية والاقتصادية، يرى الكثيرون في الذهب وسيلة ادخارية مضمونة، تحافظ على قيمة أموالهم، إن لم تُنمّها. “الناس بتشتري دهب عشان تحمي فلوسها من التضخم ومن أي هزة ممكن تحصل،” هكذا لخص رزق المشهد، مشيراً إلى أن هذا التوجه يزداد قوة كلما زادت حالة عدم اليقين الاقتصادي.
الذهب: قصة وفاء المصريين لملاذهم الأبدي
لطالما كان الذهب رفيق المصريين في أوقات الرخاء والشدة. إنه ليس مجرد معدن ثمين، بل هو جزء من النسيج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للبلاد. في أوقات الأزمات الاقتصادية والتضخم، يتحول الذهب إلى بطل الرواية، فالجميع يلجأ إليه للحفاظ على قيمة مدخراتهم من التآكل. ومع تجاوز عيار 21 هذا المستوى غير المسبوق، تتعاظم التوقعات بأن يشهد السوق المصري مزيداً من التغيرات في الأسعار خلال الفترة المقبلة، سواء بفعل تقلبات سعر الدولار محلياً، أو استمرار تحركات البورصة العالمية.
هل هذه بداية لمرحلة جديدة تتسم بارتفاعات متتالية؟ وهل سيظل الذهب، رغم ارتفاعاته الفلكية، هو الخيار الأول للأفراد للحفاظ على أموالهم من التضخم وتراجع قيمة العملة؟ هذه أسئلة تُطرح بإلحاح على طاولة كل مصري يمتلك مدخرات أو يفكر في استثمارها. يبدو أن المعدن الأصفر، بمجده وقيمته الخالدة، سيظل دائماً في صدارة الخيارات، فهو ليس مجرد استثمار، بل هو قصة أمان وثقة تتجدد مع كل أزمة، ومع كل قفزة في أسعاره. إنه الذهب، القصة التي لا تنتهي، والملاذ الذي لا يخذل أبداً.