السياحة في عصر التحول الرقمي: جسر الابتكار نحو مستقبل مستدام من قلب فيتنام
هل تتخيل عالماً لم تعد فيه شواطئنا الخلابة ومدننا التاريخية مجرد أماكن لزيارتها، بل أصبحت نقاط اتصال حيوية على خارطة رقمية تتشكل ببراعة لتقدم تجارب لا تُنسى؟ هذا ليس مجرد حلم مستقبلي بعيد، بل هو الواقع الذي تعمل على صياغته نخبة من العقول المبدعة حول العالم، وهو ما تجلى بوضوح في حدث مهم شهدته مدينة هو تشي منه الفيتنامية مؤخراً.
في قلب هذه المدينة الصاخبة والنابضة بالحياة، التي تُعد أيقونة للتطور في جنوب شرق آسيا، اجتمعت كوكبة من الخبراء، والعلماء، والباحثين، ورجال الأعمال، من شتى بقاع الأرض، ليناقشوا محاور بالغة الأهمية قد ترسم ملامح مستقبل السياحة العالمية. لم يكن هذا مجرد تجمع عادي، بل كانت ورشة عمل مكثفة بعنوان “الاقتصاد الرقمي والتنمية السياحية المستدامة”، والتي عكست بلا شك وعياً متزايداً بضرورة دمج الابتكار التكنولوجي مع مبادئ الاستدامة البيئية والاجتماعية في أحد أهم القطاعات الاقتصادية.
الدكتور تران فيت آنه، نائب مدير جامعة هونغ فونغ التي استضافت الفعالية، أوضح ببساطة أن الغاية الأساسية من وراء تنظيم هذا اللقاء كانت جمع العقول المبدعة لمناقشة التحديات والفرص الهائلة التي يفرضها الاقتصاد الرقمي، خصوصاً في مجال السياحة. فالتحول الرقمي ليس مجرد رفاهية، بل أصبح ضرورة ملحة تفرضها طبيعة العصر، لكي تبقى الوجهات السياحية قادرة على المنافسة وتقديم تجارب متفردة تلبي تطلعات الزوار. تخيل إنك قاعد بتسمع ناس بتتبادل حلول وخبرات عمرها ما كانت هتتقابل في مكان واحد لولا مؤتمر زي ده. هذا يفتح آفاقاً جديدة تماماً للتعاون والابتكار.
كانت الأجندة حافلة بمحاور متخصصة ومتنوعة، لم تقتصر على النظريات فحسب، بل امتدت لتشمل تطبيقات عملية ومبتكرة. فقد تناولت العروض التقديمية موضوعات حيوية مثل التجارة الإلكترونية والتسويق الرقمي، وهي أدوات أساسية لترويج الوجهات السياحية وجذب الزوار في عصر أصبح فيه البحث عن الرحلات والتخطيط لها يتم بنقرة زر. كما لم يغفل المشاركون عن أهمية التمويل المصرفي في دعم المشاريع السياحية المستدامة، وكيف يمكن للاقتصاد الرقمي والتحول الرقمي الشامل أن يرفع من كفاءة العمليات ويحسن من جودة الخدمات. ولم يقتصر الحديث على الجانب الاقتصادي فحسب، بل تطرق أيضاً إلى “الاقتصاد الأخضر”، الذي بات ركيزة أساسية لأي تنمية مستدامة، مؤكدين على ضرورة الموازنة بين النمو الاقتصادي والحفاظ على الموارد الطبيعية والبيئية.
ما يميز هذه الورشة هو عمق المحتوى الذي تم تقديمه ومناقشته. فقد تلقت الجهات المنظمة 124 ورقة بحثية قيّمة من 40 جامعة وكلية وشركة، وهذا العدد الكبير ليس مجرد إحصائية، بل هو دليل قاطع على شغف الباحثين وتركيزهم على هذا القطاع الحيوي وإيمانهم بدوره في تحقيق التنمية. ومن بين هذه الأبحاث الكثيرة، حظيت أربع أوراق بتقدير خاص، ما يشير إلى مستوى الجودة العالي والأفكار الرائدة التي تم طرحها. هذه الأوراق، وغيرها من العروض، شكلت منبراً لتبادل الحلول المبتكرة والخبرات المتراكمة والاتجاهات الجديدة التي تشق طريقها في عصر الاقتصاد الرقمي، بالإضافة إلى استعراض أفضل تطبيقات التكنولوجيا في تنمية السياحة المستدامة.
ولكي لا ننسى اللمسة العالمية، فقد برز خبير من إيطاليا بورقة عمل حظيت باهتمام خاص، مسلطاً الضوء على أبعاد دولية لهذا التحول وكيف يمكن للبلدان أن تتعلم من تجارب بعضها البعض. هذا التنوع في الخبرات والجنسيات يثري النقاش ويفتح آفاقاً جديدة للتفكير خارج الصندوق. ففي نهاية المطاف، كلنا جزء من منظومة عالمية مترابطة، والنجاح في قطاع السياحة يتطلب رؤى متعددة الأبعاد.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما الذي يعنيه كل هذا بالنسبة للمسافر العادي وللمستقبل؟ هل يمكننا أن نتوقع رحلات أكثر تخصيصاً ومرونة، حيث يتم تكييف كل تفصيل ليناسب ذوقك واهتماماتك الشخصية بفضل تحليل البيانات والذكاء الاصطناعي؟ وهل ستصبح تجاربنا السياحية أكثر صداقة للبيئة، حيث تضمن التقنيات الحديثة تقليل البصمة الكربونية وتعزيز المجتمعات المحلية؟ هذه الورشة تقدم إجابات واضحة لهذه التساؤلات، مؤكدة أن دمج التقنيات الرقمية مع الالتزام بالاستدامة ليس خياراً، بل هو المسار الوحيد نحو مستقبل مزدهر ومسؤول.
في النهاية، ما حدث في هو تشي منه لم يكن مجرد ورشة عمل أكاديمية، بل كان بمثابة حجر زاوية في بناء جسر يربط بين تطلعاتنا لمستقبل مستدام وواقعنا الرقمي المتسارع. إنها دعوة للتفكير في كيفية دمج التكنولوجيا بذكاء لخدمة كوكبنا ومجتمعاتنا، مع تقديم تجارب سياحية لا تُنسى. فالمستقبل قد لا يكون مجرد وجهة تزورها، بل تجربة تعيشها بكل تفاصيلها الرقمية والخضراء، وتترك فيها أثراً إيجابياً. وهكذا، تظل فيتنام، من قلب آسيا، تدفع بالنقاش العالمي نحو آفاق أوسع، لترسم معالم طريق جديد للسياحة في القرن الحادي والعشرين.