هل كنت تتخيل يومًا أن قصة الحضارات العريقة، ورنين الأغاني الشعبية، وجمال الفنون البصرية، ليست مجرد ذكريات عابرة أو مجرد ترفيه، بل قد تتحول إلى محرك اقتصادي قوي يضخ في عروق الاقتصاد الوطني فرص عمل لا حصر لها، ويضيف أرقامًا ملموسة للناتج المحلي الإجمالي؟ هذه ليست أمنيات بعيدة المنال، بل رؤية تتحقق على أرض الواقع في المملكة العربية السعودية. فبينما كان البعض يرى الثقافة قديمًا مجرد زينة اجتماعية أو متاحف صامتة تحكي قصص الماضي، أو يمكننا القول بصراحة “كانوا بيقولوا عنها تضييع للوقت والفلوس”، باتت اليوم تُرى كقوة دافعة لمستقبل مزدهر، ومصدر فخر وطني لا يقدر بثمن. هذا بالضبط ما أكده المهندس عمار بن محمد نقادي، نائب وزير الاقتصاد والتخطيط، خلال مشاركته في مؤتمر الاستثمار الثقافي الأخير. لقد شدد على أن الثقافة لم تعد مجرد “شيء حلو” بل أصبحت رافدًا اقتصاديًا مهمًا، وعنصرًا حيويًا يتنامى في صميم الاقتصاد الوطني.
المملكة، بطبيعتها الجغرافية وتاريخها الممتد، تحمل في طياتها كنوزًا ثقافية وتراثية لا تقدر بثمن. “بصراحة، لما تفكر في الموضوع ده، بتحس إننا قاعدين على كنز” – هي ليست مجرد تعبيرات شاعرية، بل حقيقة يترجمها الواقع بأرقام وإحصائيات مذهلة. كيف لا والمملكة تحتضن ثمانية مواقع أدرجتها منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي؟ نتحدث هنا عن أماكن مثل العلا الساحرة بتكويناتها الصخرية وتاريخها النبطي الغني، وجبة بآثارها الصخرية الفريدة، ومنطقة البلد التاريخية في جدة التي تنبض بالحياة، وصولاً إلى الطُبيق وغيرها من المواقع التي تروي قصصًا تمتد لآلاف السنين. وليس هذا فحسب، بل يضاف إلى هذه الثروة المادية ستة عشر عنصرًا من التراث غير المادي، الذي يحفظ تقاليدنا الأصيلة وعاداتنا المتوارثة، من الحرف اليدوية إلى فنون الأداء والمأكولات الشعبية التي تمثل جزءًا لا يتجزأ من هويتنا.
ولكن، كيف يمكن تحويل هذه الكنوز من مجرد “آثار” إلى “محركات اقتصادية حقيقية”؟ الأمر يتطلب رؤية واضحة وأدوات وسياسات داعمة. المهندس نقادي أوضح أن استغلال هذه الأصول يتطلب ثلاثة محاور رئيسية، “يعني ببساطة، لازم نجهز الأرضية ونرويها ونزرع فيها الكوادر”. أولاً، الاستثمار في البنية التحتية، سواء كانت رقمية لربط العالم الرقمي بثقافتنا، أو فيزيائية لتحسين وصول الزوار وتجاربهم في المواقع الثقافية. تخيل أنك تزور موقعًا تاريخيًا وتجد كل المعلومات بين يديك بلمسة زر! ثانيًا، تأمين التمويل اللازم، وهنا يأتي دور صندوق التنمية الثقافي الذي يلعب دورًا محوريًا في دعم المشاريع والمبادرات التي تسهم في النهوض بالقطاع. وأخيرًا، وليس آخرًا، الاستثمار في رأس المال البشري؛ عبر برامج التدريب المتخصصة والابتعاث الخارجي، لخلق جيل من الكفاءات الوطنية القادرة على إدارة وتطوير وصيانة هذا الإرث الثقافي بأسلوب عصري ومستدام. ففي نهاية المطاف، الناس هم أثمن أصولنا.
والنتائج الأولية لهذا النهج الطموح بدأت تظهر ملامحها بوضوح وتؤكد أننا نسير على الطريق الصحيح. فالثقافة، التي كانت تعتبر “مجرد هواية” في نظر البعض، أصبحت الآن تسهم بنسبة 1.6% من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة. “يعني بصراحة، أرقام زي دي مش قليلة أبداً، دي بداية قوية ومبشرة بمستقبل أفضل”. والأكثر من ذلك، فقد أدت إلى توفير نحو 230 ألف فرصة وظيفية في مجالات متنوعة، من إدارة المواقع التراثية إلى تصميم المحتوى الرقمي، ومن تنظيم الفعاليات الثقافية إلى تعليم الفنون والحرف. هذه الأرقام، كما شدد نقادي، ليست سوى نقطة انطلاق. إنها مجرد لمحة عما هو قادم، ودليل على أن الإمكانات لا تزال هائلة وغير مستغلة بالكامل بعد.
الطموح هنا لا يعرف حدودًا، فالمسار الذي رسمته المملكة لهذا القطاع واعد للغاية. فما ستقدمه وزارة الثقافة وفريقها المختص في المرحلة القادمة، من مبادرات وبرامج ومشاريع نوعية، سيُعزز هذا الحضور المتنامي للقطاع الثقافي، بل وسيضاعف أثره الاقتصادي والاجتماعي بشكل كبير. “يعني الموضوع هيكبر أكتر وأكتر، وهنشوف تغييرات جذرية في نظرتنا للثقافة ودورها”. الهدف ليس فقط زيادة الأرقام والإحصائيات، بل بناء نظام بيئي ثقافي متكامل يدعم الإبداع، ويروج للهوية الوطنية للعالم أجمع، ويقدم تجارب ثقافية فريدة تثري حياة المواطنين والمقيمين والزوار على حد سواء، مما يعزز مكانة المملكة كمركز ثقافي عالمي.
في الختام، ما نشهده اليوم في المملكة العربية السعودية ليس مجرد اهتمام عابر بالثقافة، بل هو استراتيجية وطنية عميقة المدى، تدرك قيمة الإرث التاريخي وتراهن بقوة على المستقبل. إنه تحويل للثقافة من مجرد “سلعة استهلاكية” أو “مجرد تراث يُعرض” إلى “قوة منتجة” تدفع عجلة التنمية المستدامة، وتخلق قيمة مضافة حقيقية. هذا المسار الجديد يفتح آفاقًا واسعة للشباب الطموح، ويوفر فرصًا غير مسبوقة للمستثمرين الباحثين عن قطاعات نمو واعدة، ويعيد تشكيل مفهوم الهوية الوطنية في عالم يتسم بالتغير المستمر والبحث عن الأصالة. فهل نحن مستعدون لهذه الرحلة المثيرة؟ رحلة يتشارك فيها الماضي العريق والحاضر المتجدد والمستقبل الواعد، لتخط ملامح فجر ثقافي واقتصادي جديد؟ بالتأكيد، “يبقى إحنا كده قدام حاجة أكبر بكتير من مجرد آثار ومهرجانات، إحنا قدام بناء أمة على أساس متين من الأصالة والإبداع، وتصدير هويتها للعالم بفخر”. إنها دعوة للتأمل في أن الثقافة ليست رفاهية يمكن الاستغناء عنها، بل هي الركيزة الأساسية التي تُبنى عليها الأمم وتزدهر بها الشعوب، وتصنع بها مستقبلها.