هل تُرى تركيا على وشك الانزلاق مرة أخرى في دوامة من التكهنات الاقتصادية؟ هذا هو السؤال الذي يتردد صداه في أروقة العاصمة أنقرة، وفي أذهان ملايين الأتراك، بعد قرارات البنك المركزي الأخيرة التي بدت، على غير المتوقع، أقل تشدداً فيما يتعلق بأسعار الفائدة. فهل تشير هذه الخطوة إلى أن مسيرة التحول الاقتصادي، التي بدأت بخطوات حذرة في عام 2023 نحو سياسة أكثر عقلانية، باتت مهددة بالانقلاب؟ الأمر ليس بهذه البساطة، ففي عالم الاقتصاد، خصوصاً في بلد مثل تركيا، تتشابك الخيوط السياسية والاقتصادية لتنسج مستقبلاً مليئاً بالاحتمالات.

لنفهم الصورة الكاملة، يجب أن نعود قليلاً إلى الوراء. بعد سنوات من السياسات النقدية غير التقليدية التي أثارت جدلاً واسعاً، بدأت تركيا العام الماضي في مسار تصحيحي، سعت من خلاله للسيطرة على التضخم المستعر واستعادة ثقة المستثمرين. لكن يبدو أن هذه الرحلة قد تواجه مطبات غير متوقعة. الرؤية الأولية للخبراء الاقتصاديين ترجح تحولاً جزئياً عن الموقف المتشدد الحالي بحلول عام 2027، حيث يتوقعون أن يتراجع العائد الحقيقي نحو الصفر في تلك الفترة. أما سيناريو المخاطر، فيشير إلى احتمالية اتخاذ موقف أكثر تساهلاً في السياسة النقدية قبل ذلك، تحديداً بحلول أواخر عام 2026.

هذه التوقعات لا تأتي من فراغ، بل تستند إلى افتراضين رئيسيين يلامسان جوهر المشهد التركي: الأول يتعلق بالآفاق المالية، والثاني بالدورات الانتخابية. ببساطة، نتوقع أن تشهد تركيا انتخابات رئاسية مبكرة في أواخر عام 2027، وأن تتبع هذه الفترة سياسة مالية توسعية بشكل متزايد، يعني “الحكومة هتصرف أكتر” قبل موعد الانتخابات لجذب الناخبين. هذه العوامل مجتمعة ترسم ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل السياسة النقدية في البلاد، كل منها يحمل في طياته مفاجآته.

السيناريو الأول، والذي يُطلق عليه “الخط الأساسي”، يفترض أن البنك المركزي سيخفض أسعار الفائدة بشكل مدروس خلال عام 2026، لتنتهي السنة بسعر فائدة يبلغ 23%، مما يضمن بقاء العائد الحقيقي المتوقع فوق 5%. لكن “المشوار ما يخلصش هنا”، ففي النصف الثاني من عام 2027، يتوقع أن يتجه صانعو السياسات نحو موقف أكثر تيسيراً، مما يدفع سعر الفائدة دون 20%، ويضع العوائد الحقيقية في نطاق يتراوح بين 0% و5%. بعد هذه “الفترة اللذيذة” اقتصادياً، قد نرى عودة لسياسة نقدية مشددة في عام 2028 لكبح جماح ضغوط الأسعار المتوقعة.

أما السيناريو الثاني، وهو “سيناريو التيسير”، فيرسم صورة أكثر جرأة. هنا، تستمر تخفيضات أسعار الفائدة بوتيرة قد تكون مفاجئة للبعض، مما يدفع العوائد الحقيقية إلى ما دون عتبة 5% في عام 2026، ثم إلى ما دون الصفر في النصف الثاني من عام 2027. هذا يعني، بشكل أساسي، أن سعر الفائدة الاسمي قد يهبط إلى 13.5% بحلول نهاية 2026، ومن المحتمل أن يستمر في الانخفاض بعد ذلك. وهذا السيناريو، بحسب المحللين، هو الأرجح بين سيناريوهات المخاطر، بالنظر إلى السجل التاريخي لتركيا في “تخفيف الحزام” النقدي قبل الاستحقاقات الانتخابية. فهل يكرر التاريخ نفسه؟

على الجانب الآخر، هناك “سيناريو التشديد”، وهو الأقل ترجيحاً، لكنه يبقى وارداً. فإذا أدى الإنفاق المالي المتزايد إلى تدهور آفاق التضخم، قد يضطر البنك المركزي إلى رفع أسعار الفائدة قبل الانتخابات الرئاسية. في هذا السيناريو، تبقى العوائد الحقيقية فوق 5% حتى عام 2027، مع بقاء سعر الفائدة عند أو فوق 25% اعتباراً من أواخر 2026. إنه سيناريو “الضد تماماً”، حيث تتغلب المخاوف التضخمية على أي رغبة في التيسير.

لكن الطريق ليس معبداً بالورود. القضايا السياسية الراهنة، مثل جلسة المحكمة المقرر عقدها في 24 أكتوبر الجاري والتي قد تؤثر على قيادة حزب المعارضة الرئيسي، يمكن أن تؤدي إلى تدهور معنويات المستثمرين وإضعاف الليرة التركية. ومثل هذه الظروف تفرض واقعاً مالياً أكثر تشدداً حتى قبل أن يتمكن البنك المركزي من استئناف سياسة التيسير النقدي. كيف يمكن لصناع السياسات أن يديروا هذا الخطر قصير الأجل؟ قد يلجأون إلى إعادة توجيه التمويل بين الأدوات المختلفة، على الأرجح بعيداً عن نافذة السياسة النقدية، حيث يبلغ سعر الفائدة حالياً 40.5%، إلى أداة الإقراض لليلة واحدة، حيث يقف السعر عند 43.5%.

وقد نشهد حتى رفعاً في سعر الفائدة إذا استمرت الضغوط على الليرة وتراجعت الاحتياطيات الأجنبية، وهذا ليس بجديد على تركيا. فلقد حدث ما يشبهه من قبل، وتحديداً بعد اعتقال رئيس بلدية إسطنبول المنتخب، أكرم إمام أوغلو، في 19 مارس الماضي، مما أثار موجة من عدم اليقين في الأسواق.

الحديث عن العوائد الحقيقية قد يبدو معقداً للبعض. فكيف تُقاس بالضبط؟ ببساطة، إنها مقارنة بين متوسط العائد المركب المتوقع خلال عام واحد على سعر إعادة الشراء لأسبوع واحد، ومعدل التضخم المتوقع لنفس الفترة. ولتبسيط الأمور، تظهر الفترات السابقة من التشديد النقدي أن نسبة 5% تمثل عتبة حرجة؛ وهي الحد الأدنى الذي تحقق في عهد محافظي البنك المركزي السابقين مثل مراد جتينكايا وناجي إقبال. أما الحد الأدنى عند 0% للعائد الحقيقي، فهو مستمد من فترة السياسة النقدية فائقة التيسير التي قادها شهاب قافجي أوغلو.

وفي قلب كل هذه التوقعات، تكمن افتراضات حول الدورات الانتخابية والمالية. الفرضية الأولى هي أن الانتخابات الرئاسية، المجدولة حالياً لعام 2028، ستقدم إلى أواخر عام 2027. وهذا، بحسب المحللين، هو المسار الأكثر ترجيحاً الذي قد يضمن بقاء الرئيس رجب طيب أردوغان في منصبه. أما التوسع المالي، فقد تم تضمينه بالفعل في البرنامج متوسط الأجل الذي أعلنته الحكومة في وقت سابق من هذا الشهر. وافتراضنا بشأن تاريخ الانتخابات يعني ببساطة أن ذروة الإنفاق في الميزانية ستنتقل من عام 2028 إلى عام 2027. “يعني الفلوس اللي كانت هتتصرف في 2028 هتتصرف بدري سنة”.

في النهاية، يبدو المشهد الاقتصادي التركي أشبه بلعبة شطرنج معقدة، كل حركة فيها تؤثر على اللوحة بأكملها. القرارات الاقتصادية لا تتخذ بمعزل عن الحسابات السياسية، والانتخابات تلقي بظلالها على كل خطوة يخطوها صناع القرار. والمواطن التركي، هو المتلقي الأول لهذه التغييرات، فهل ستنجح أنقرة في اجتياز هذه المرحلة دون هزات عنيفة، أم أن التقلبات ستكون هي السمة الأبرز للمرحلة القادمة؟ السؤال يبقى معلقاً، والإجابة سيكتبها الزمن وأداء السياسات.

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.