عندما تبهت لمعة الذهب: سوق القاهرة في مهب الريح وأحلام المصريين تحت ضغط الأسعار

في قلب القاهرة، حيث كانت محلات الصاغة تضج يوماً بحركة دائبة، ويسعى إليها العرسان لـ”شبكتهم” والأسر لادخار يطمئنها، باتت اليوم حالة من الصمت تلف الأجواء، وكأن بريق الذهب نفسه قد خفت أمام واقع اقتصادي متسارع. جولة ميدانية في أسواق العاصمة كشفت عن مشهد لم يكن معتاداً: ركود غير مسبوق في حركة الشراء، وتناثر الوجوه القلقة بين التجار والمواطنين على حد سواء.

لم يعد الارتفاع الجنوني في أسعار المعدن الأصفر خبراً عابراً، بل أصبح حديث الساعة، وشغل الناس الشاغل. “الذهب طار يا أستاذ”، هكذا عبّر أحد تجار الصاغة المخضرمين، وهو يهز رأسه أسفاً. وأشار إلى أن سعر جرام الذهب عيار 21 قد بلغ أعلى مستوياته منذ سنوات طويلة، مسجلاً 5150 جنيهاً مصرياً في الأيام القليلة الماضية. هذا الصعود الصاروخي لم يأتِ من فراغ، بل هو مرآة لما يحدث على الساحة العالمية، حيث شهد مؤشر البورصة العالمية قفزة غير مسبوقة، جذبت المستثمرين الأجانب إلى الملاذ الآمن التقليدي – الذهب – في ظل اضطرابات عالمية لا تتوقف، تجعل المستقبل الاقتصادي غامضاً ومحيراً.

لكن الأمر لا يتعلق فقط بالمؤشرات العالمية الجافة، بل يمس حياة الناس بشكل مباشر. فـ”كبير تجار السوق” يرى أن سبب فتور الإقبال على الشراء يعود أيضاً لانشغال المواطنين بأعباء أخرى أصبحت لا تحتمل التأجيل، على رأسها موسم المدارس الذي يستنزف جيوب الأسر. تخيل يا صديقي، سعر الجرام وصل إلى 5160 جنيهاً دون احتساب “المصنعية” التي هي في حد ذاتها قصة أخرى. هذه “المصنعية” التي تُضاف على سعر الذهب الخام وتختلف قيمتها من قطعة لأخرى ومن مصنع لآخر، والتي لا يملك التاجر فيها إلا أن يضيف هامش ربحه عليها. يعني، الموضوع مش سهل خالص.

التاجر مينا مكرم أكد هذا المشهد المتقلب، موضحاً أن سعر الشراء للجرام الواحد بلغ 5140 جنيهاً، بينما انخفض سعر البيع إلى 5100 جنيه. وأشار إلى أن الوضع الحالي يشهد ضعفاً ملحوظاً في الإقبال، ليس فقط بسبب الأسعار المرتفعة، بل لأن حساب قيمة الذهب المباع يستلزم خصم قيمة “المصنعية” الأصلية، مما يقلل من العائد الذي يحصل عليه البائع. ومع استمرار ارتفاع مؤشرات البورصة العالمية، تبدو التوقعات أقرب إلى الصعود المستمر، مما يزيد الضبابية.

بالنسبة للمواطنين، القصة أكثر ألماً وتعقيداً. “الذهب زمان كان سند العيلة، دلوقتي بقى حمل عليها”، هكذا لخّص مواطن عادي الوضع. ارتفاع أسعار الذهب تحول إلى حائط صد منيع أمام الشباب متوسطي الحال الذين يطمحون في الزواج وتكوين أسرة. حتى فكرة شراء هدية ذهبية أصبحت رفاهية لا يقدر عليها رب الأسرة الذي يكابد لتوفير الأساسيات في ظل غلاء معيشي يشمل كل سلعة. وكم من سيدة اضطرت لبيع مدخراتها من الذهب لتغطية مصاريف مدارس أبنائها، تماماً كما روت إحدى المواطنات التي أشارت إلى أن جرام الذهب بالمصنعية قد تجاوز 5190 جنيهاً. هل تستوعب حجم هذا الرقم؟ يعني ببساطة راتب شهر كامل يذهب لجرام ذهب واحد، وهو مبلغ يمكن أن يلبي احتياجات أساسية كثيرة للعائلة. وهذا دفع بعضهن للتفكير في بدائل مثل الذهب الصيني، يا لها من مفارقة!

الأمر لم يتوقف عند فتور الشراء، بل تجاوز ذلك ليصبح “موجة بيع” حقيقية. أحد التجار أكد أن السوق يشهد حالياً عمليات بيع أكثر بكثير من الشراء. تجد الأسر تأتي لبيع ما كانت تدخره من جنيهات ذهبية أو مشغولات قيّمة لتلبية احتياجاتها الملحة. حتى فكرة شراء الذهب المستعمل، التي كانت موجودة وإن كانت نادرة، أصبحت غير مضمونة تماماً وغير رائجة في السوق المحلي حالياً. “التوقعات ضبابية، والمؤشر مش ثابت على حال”، هكذا وصفها التاجر، وكأنه يصف حالة الطقس المتقلب.

من جانبه، ألقى الأستاذ لطفي منيب، نائب رئيس شعبة الذهب والمجوهرات بالغرفة التجارية، الضوء على هذا المشهد من منظور أوسع. أوضح أن البورصة العالمية تشهد تحديثاً لحظياً، وهذا ينعكس بشكل مباشر وفوري على السوق المحلي في كل محل صاغة. وقد سجل عيار 21 أعلى قيمة له هذا الأسبوع، حيث بلغ 5225 جنيهاً للجرام، وهذا رقم مهول. وعن التنبؤ بأسعار الأسبوع المقبل؟ قال منيب بابتسامة تحمل الكثير من العجز: “ده محتاج قارئ فنجان!” مؤكداً أن الفروقات البسيطة بين الأسعار من محل لآخر تعود لسرعة تحديث الشاشات، وأن ما تعلنه الشعبة هو متوسط للأسعار.

ويختتم منيب تحليله بتحذير واضح: الإقبال على الشراء تراجع بشكل حاد أمام عمليات البيع. وهذا الارتفاع العالمي الحاد شجع المواطنين على جني الأرباح من مدخراتهم، مما أدى إلى أزمة سيولة في السوق. ما النصيحة التي يمكن تقديمها في هذه الأجواء الضبابية؟ يرى منيب أن الأفضل أن يظل كل فرد على أسلوب الادخار الذي يتبعه، فلم يعد هناك “وصفة سحرية” للتعامل مع سوق الذهب في ظل هذه التقلبات.

في النهاية، يبدو أن الذهب في مصر يمر بمرحلة انتقالية حاسمة. هل سيظل الملاذ الآمن والمدخر الأمين للمصريين، أم أنه سيتحول إلى مجرد سلعة استثمارية باهظة بعيدة عن متناول الطبقات المتوسطة والفقيرة؟ الأيام القادمة وحدها ستكشف إلى أي مدى يمكن أن تتأقلم أحلام المصريين مع واقع اقتصادي يجعل لمعة الذهب تبدو بعيدة المنال، وكأنها مرآة تعكس أزمة أعمق تتجاوز حدود محلات الصاغة.

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.