في قلب عاصفة سياسية تضرب واشنطن، وتلقي بظلالها على المشهد الاقتصادي العالمي، برزت قصة غريبة الأطوار هذا الأربعاء، وكأنها ترسم لوحة تجسد التناقضات العميقة التي تعيشها أسواق المال اليوم. فبينما كانت أروقة البيت الأبيض والكونغرس غارقة في صراع سياسي حاد أفضى إلى إغلاق حكومي جزئي، كانت العملات الرقمية الكبرى، وعلى رأسها البيتكوين، تحتفل بارتفاعات مذهلة، وكأنها ترفض الانصياع لقواعد اللعبة التقليدية. ألا يطرح هذا المشهد تساؤلاً جوهريًا حول أي الأنماط المالية تكتسب الصدارة في زمن الاضطرابات المتزايدة؟
لم يكن هذا الارتفاع وليد الصدفة، بل كان قفزة نوعية رسمت ملامح يوم استثنائي في سجل العملات المشفرة. البيتكوين، تلك العملة الرقمية الرائدة التي لا تزال تثير الجدل والإعجاب في آن، استقرت بثقة فوق حاجز 116 ألف دولار، لتسجل تحديدًا 116,431.86 دولارًا أمريكيًا. تخيل، مكاسب يومية قاربت الـ 3% وزيادة أسبوعية تجاوزت 3.2%! هذا الأداء القوي دفع قيمتها السوقية الإجمالية إلى ما يقارب 2.32 تريليون دولار. أرقام مهولة، صح؟ وراء هذه الطفرة، قصة نجاح تتجلى في صناديق المؤشرات المتداولة للبيتكوين في السوق الفورية بالولايات المتحدة. هذه الصناديق، التي فتحت أبوابًا جديدة للمستثمرين المؤسسيين والأفراد على حد سواء، جذبت تدفقات مالية قياسية، كانت المحرك الأساسي وراء هذا الصعود الصاروخي.
ففي يوم 30 سبتمبر وحده، بلغت هذه التدفقات إلى صناديق البيتكوين الفورية 429.9 مليون دولار، تصدرتها أسماء عملاقة في عالم إدارة الأصول مثل “بلاك روك” بـ 199.4 مليون دولار، تليها “آرك إنفست” بـ 105.7 مليون دولار، ثم “فيدليتي” بـ 54.7 مليون دولار. ولو حسبتها على مدار الشهر، فالتدفقات الشهرية تجاوزت 3.53 مليار دولار، والأجمل أنه لم تسجل أي عمليات خروج للأموال على الإطلاق. هذا مؤشر قوي على الثقة الراسخة التي يوليها المستثمرون لهذه الأداة، ويدل على أن الأموال تتدفق باتجاه واحد: الداخل، بلا أي إشارة للخروج. يعني، الناس بتدخل ومحدش بيخرج، دي إشارة قوية طبعًا.
وكأن بيتكوين أعطت إشارة البدء، تبعتها رفيقاتها في عالم العملات الرقمية، لتؤكد أن هذه الموجة الصعودية ليست حدثًا فرديًا. الإيثريوم، شقيقة البيتكوين الصغرى وريثة عرش العقود الذكية، لحقت بها بخطى واثقة، لتلامس مستوى 4,300.48 دولارًا، محققة زيادة يومية قدرها 3.5% ومكاسب أسبوعية قاربت 2.6%. وحتى الريبل، التي لطالما كانت محط أنظار المراقبين، واصلت أداءها الإيجابي لتسجل 2.93 دولار، بارتفاع يومي نسبته 1.8% وزيادة أسبوعية تجاوزت 3%، رافعة بذلك قيمتها السوقية إلى نحو 175.4 مليار دولار. يعني، الموجة كانت طايلة كله، مش بس العملة الأم، وكأنها احتفالية جماعية في عالم العملات المشفرة.
ولكن مهلاً، فليس كل ما يلمع ذهبًا في المشهد الاقتصادي العالمي. فبينما كانت الشاشات تضيء بالأخضر احتفالًا بمكاسب العملات المشفرة، كانت أروقة السلطة في واشنطن تشهد فصولًا من الفشل السياسي الدراماتيكي. ففي نفس اليوم، دخلت الحكومة الفيدرالية الأمريكية في تعطيل جزئي لمهامها، أو ما يعرف بـ “الإغلاق الحكومي”، بعد فشل ذريع للمشرعين في التوصل إلى اتفاق حول مشروع قانون تمويل مؤقت. تخيل، أكبر اقتصاد في العالم، وحكومته مش قادرة تتفق على كيفية تمويل نفسها. مجلس الشيوخ رفض إجراءً جمهوريًا مساء الثلاثاء بتصويت 55 مقابل 45، وهو رقم لم يصل إلى عتبة الستين صوتًا اللازمة لتمرير القانون. يعني بالبلدي كده، السياسيين كانوا عاملين زي الأطفال اللي مش عارفين يتفقوا على لعبة واحدة، والحكومة وقفت شغلها جزئيًا.
وهذا الإغلاق لم يكن مجرد خلاف روتيني عابر. الرئيس الأمريكي آنذاك، دونالد ترامب، لم يكتفِ بالصمت، بل دافع عنه بقوة، مبررًا إياه بأنه يمنح إدارته فسحة لاتخاذ “إجراءات لا رجعة فيها”. ماذا يعني ذلك؟ يعني خفض الإنفاق وإغلاق بعض البرامج الفيدرالية. هل هي مناورة سياسية أم خطة مدروسة لإعادة هيكلة الإنفاق؟ الأمر يشير إلى أن هذه المواجهة قد تستمر لفترة طويلة، وستكون لها انعكاسات اقتصادية أوسع وأعمق، مما يفاقم من حالة عدم اليقين. ده معناه إن الموضوع مش مجرد كام يوم وهيرجعوا يتصالحوا، لأ ده ممكن يبقى حوار طويل ومكلف، ومحدش عارف آخره إيه.
هذا الشلل الإداري، كما هو متوقع، ألقى بظلاله الثقيلة على الأسواق العالمية، مضيفًا طبقة جديدة من الغموض فوق طبقات سابقة. وكأن الأسواق لم يكن لديها ما يكفيها من التوتر! أثار هذا الوضع شكوكًا جادة حول إمكانية صدور تقرير الوظائف الأمريكية غير الزراعية، وهو تقرير اقتصادي بالغ الأهمية يترقبه الجميع، كان مقررًا صدوره يوم الجمعة. ولو تأخر هذا التقرير أو لم يصدر، فكيف سيتمكن الاحتياطي الفيدرالي من تحديد مسار سياسته النقدية في اجتماعه المقبل؟ سيكون الأمر أشبه بالسير في الظلام، صح؟ مشكلة مش سهلة خالص، وتخلي أي حد محتار في اتخاذ أي قرار.
هنا تكمن المفارقة العميقة، والرسالة المعقدة التي يبعث بها السوق: كيف يمكن لأصول رقمية أن تزدهر بينما يتخبط عمالقة الاقتصاد التقليدي في صراعاتهم؟ رغم أن البيتكوين استهلت شهر أكتوبر بنوع من التفاؤل الموسمي الذي غالبًا ما يصب في مصلحتها، إلا أن الأجواء لم تلبث أن تغيرت. فمع اتساع رقعة الحذر والترقب نتيجة الغموض المحيط بالسياسة المالية الأمريكية والتوقعات الاقتصادية بشكل عام، بدأت تلك المكاسب القوية تواجه ضغوطًا خفيفة، وكأن السوق يهمس: لا شيء يدوم على وتيرة واحدة في عالم غير مستقر. يعني صحيح كانت بتصعد بقوة، بس الرياح اللي جاية من واشنطن مكنتش سهلة عليها، وكانت بتخلي المستثمرين يقلقوا.
في النهاية، ما الذي يمكن أن نستخلصه من هذه القصة المزدوجة المتناقضة؟ إن هذه الأحداث المتزامنة لا تروي قصة أسواق فحسب، بل تحكي عن تحولات جوهرية في القوى الاقتصادية الكبرى. فبينما يسعى النظام المالي التقليدي، ممثلاً بالحكومات والبنوك المركزية، إلى إيجاد الاستقرار عبر آلياته المعقدة، فإن البدائل اللامركزية، كالعملات الرقمية، تواصل شق طريقها، أحيانًا كمهرب للمستثمرين من اضطرابات “العالم القديم”، وأحيانًا كمرآة تعكس هذه الاضطرابات نفسها. هل هذا يعني أننا نشهد تحولًا جذريًا في نظرتنا للأصول القيمة؟ أم أنها مجرد حلقة أخرى في مسلسل الصعود والهبوط الذي يميز الأسواق المالية؟
الرسالة واضحة لكل من يتابع: المرونة والتكيف أصبحا مفتاح البقاء في هذا المناخ الاقتصادي المتقلب. فلا يكفي أن تفهم جهة واحدة من المعادلة، بل يجب أن ترى الصورة كاملة بتناقضاتها وتفاصيلها. إن قدرة العملات الرقمية على النمو حتى في ظل الشلل السياسي التقليدي تسلط الضوء على رغبة المستثمرين في البحث عن ملاذات بديلة، أو على الأقل عن مسارات استثمارية أقل عرضة للتدخلات الحكومية المباشرة. يعني بصراحة، اللعبة بقت أكبر وأكثر تعقيدًا، واللي عايز يكسب فيها لازم يكون فاهم كل الجوانب، التقليدية والرقمية، ومستعد لكل الاحتمالات.