طوفان باكستان: أحلام 2026 تغرق تحت وقع السيول الجارفة

في بداية عام 2025، كانت باكستان تحمل بين طياتها أحلامًا وردية لمستقبل اقتصادي واعد، عام 2026 تحديدًا كان يُنظر إليه كعلامة فارقة، حيث كانت المؤشرات كلها توحي بأن سفينة الاقتصاد الباكستاني بدأت تتهيأ للإبحار نحو بر الأمان. بعد سنوات من التقلبات والصعوبات، وبفضل خطة إنقاذ مالي بقيمة 7 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، كانت الحكومة تتوقع نموًا اقتصاديًا قويًا بنسبة 4.2%، مدفوعة بانتعاش قطاعي الزراعة والصناعة، وهما عصب الحياة في هذا البلد الشاسع. كان الأمل يشرق على وجه البلاد، والناس بدأت تتنفس الصعداء، لكن يا فرحة ما تمت، فكأن القدر كان يخبئ لهم مفاجأة من نوع آخر، مفاجأة لم تكن في الحسبان.

لكن، وكما يحدث دائمًا، أبت الطبيعة إلا أن يكون لها رأي آخر، رأي قاسٍ لا يرحم. فبدلاً من الاستقرار الموعود والنمو المتوقع، اجتاحت البلاد منذ أواخر يونيو/حزيران سيولٌ جارفة لم تشهدها باكستان منذ عقود طويلة. كانت أمطارًا موسمية قياسية، تفاقمت حدتها بشكل دراماتيكي بسبب عمليات صرف المياه من السدود في الهند المجاورة، لتتحول هذه المياه الهادئة إلى طوفان غاضب ابتلع كل ما في طريقه. اجتاحت هذه الفيضانات مساحات شاسعة من إقليم البنجاب شرقًا وإقليم السند جنوبًا، وهما قلب باكستان النابض، حيث يتركز فيهما معظم السكان والأنشطة الاقتصادية الحيوية. هل يمكن تخيل حجم الدمار الذي خلفه هذا الطوفان على أحلام أمة بأكملها؟

ضربة قاسية للاقتصاد

مع أن المياه لم تنحسر بعد بشكل كامل في العديد من المناطق، إلا أن النذر الأولى للضرر بدأت تتكشف، وهي تنذر بما هو أسوأ. المسؤولون والمحللون يحذرون اليوم من أن حجم هذه الكارثة قد يتجاوز ما شهدته باكستان في عام 2022، عندما غمرت المياه ثلث مساحة البلاد بالكامل، مخلفة دمارًا هائلاً. وزير التخطيط الباكستاني، أحسن إقبال، لم يتمكن من إخفاء قلقه، معترفًا بأن هذه الفيضانات “ستؤدي حتمًا إلى انتكاسة” في نمو الناتج المحلي الإجمالي، مؤكدًا أن تقديرًا أوضح لحجم الخسائر سيستغرق حوالي أسبوعين ليكتمل. يعني بصراحة كده، الأمور شكلها مش لطيف خالص.

حتى البنك المركزي الباكستاني، الذي كان يتوقع نموًا في الناتج المحلي الإجمالي في نطاق 3.25%-4.25%، أقرّ بأن هذه الفيضانات ستتسبب في “صدمة إمدادات مؤقتة ولكنها كبيرة”. ورغم محاولته التخفيف من حدة القلق بالإشارة إلى أن هذه الصدمة قد تكون أقل حدة من كارثة 2022 التي كلفت 30 مليار دولار، نظرًا لاحتياطيات النقد الأجنبي الأكبر وانخفاض أسعار الفائدة الحالية، يظل التساؤل قائمًا: هل هذه الفروقات كافية لامتصاص الصدمة؟

ولعل هذا هو ما سيدور في أروقة صندوق النقد الدولي خلال مراجعته القادمة لتسهيل الصندوق الممدد هذا الأسبوع. ماهر بينيسي، الممثل المقيم للصندوق في باكستان، أوضح أن المراجعة ستقيم ما إذا كانت ميزانية السنة المالية 2026 والمخصصات الطارئة يمكن أن تلبي احتياجات البلاد المتزايدة. ومع هذا كله، لم يجد وزير التخطيط الباكستاني أحسن إقبال إلا أن يدعو الصندوق صراحة إلى “المساعدة في التخفيف من الأضرار”. كأن البلد بيقول: الحقوني!

خراب في كل مكان

الأرقام لا تكذب، وهي تحكي قصة مأساوية بحد ذاتها. أكثر من 1.8 مليون فدان من الأراضي الزراعية، التي كانت مخصصة لزراعة الأرز والقطن والذرة، قد غمرتها المياه تمامًا. تخيل أنك زارع أرضك وتصحى لتجد كل تعبك وجهدك راح في لحظة! محاصيل الأرز تضررت بنسبة 50%، بينما القطن والذرة تضررا بنسبة 60% في المناطق المنكوبة. أما الخضروات، ففي بعض المناطق، تجاوزت نسبة التدمير 90%، مما يعني أن معظمها أصبح مجرد ذكرى.

القطاع الصناعي لم يسلم أيضًا. المدن الصناعية الكبرى، مثل سيالكوت التي تشتهر بصناعاتها التحويلية، شهدت غرق الورش والمصانع، مما عطل الإنتاج وألحق خسائر فادحة. وهذا ليس مجرد توقف مؤقت، فنقص القطن، نتيجة تدني المحاصيل، سيضرب قطاع النسيج الذي يُعد من أكبر القطاعات التصديرية لباكستان في مقتل. وسلاسل التوريد الزراعية بدورها أصيبت بالشلل التام، فالطرق والجسور والبنية التحتية للنقل تضررت بشكل كبير، مما سيزيد من تكلفة وصول السلع إلى الأسواق ويفرض ضغوطًا هائلة على الأسعار. يعني في النهاية، كل ده بيدفع ثمنه المواطن البسيط.

التكلفة المالية والآثار الاقتصادية

الخسائر الأولية في القطاع الزراعي وحده، ووفقًا لتقديرات بعض الدراسات الحكومية وشركات الاستثمار، تصل إلى 3.53 مليارات دولار. وهذا ليس سوى بداية الحساب. النمو الاقتصادي المتوقع، والذي كان يبلغ 4.2%، تراجع الآن إلى نطاق يتراوح بين 3.25% و4.2%، ومع استمرار الضغوط، قد يتجه نحو الحد الأدنى.

ولم تتوقف الكارثة هنا، فمن المتوقع أن يرتفع العجز في الحساب الجاري، وهو الميزان التجاري للبلاد، بسبب خسارة الصادرات الرئيسية مثل القطن والأرز والسكر، وفي المقابل، زيادة الواردات الغذائية لتعويض النقص في السوق المحلي. وتشير التقديرات إلى أن هذا العجز قد يزيد بمليارات الدولارات، ما يضع ضغطًا إضافيًا على العملة الوطنية وعلى احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي. يعني بصراحة، البلد هتضطر تستورد أكتر وتصدّر أقل، ودي معادلة صعبة أوي.

مخاطر تتجاوز الحاضر

المشهد لا يقتصر على الخسائر الحالية فحسب. هناك مخاطر إضافية تهدد المستقبل القريب. فإذا لم تتراجع المياه بسرعة، فقد تتأجل زراعة المحصول الشتوي الأساسي، مثل القمح، والذي يعتبر الغذاء الرئيسي للملايين. تخيل معي تبعات ذلك على الأمن الغذائي. كما أن هناك تسارعًا في تضخم أسعار السلع الغذائية، خاصة الأساسية منها كالقمح والسكر والخضروات، ما يثقل كاهل الأسر ويؤثر بشكل مباشر على قدرتهم الشرائية.

باكستان، تلك الدولة الشاسعة ذات الكثافة السكانية الهائلة، تجد نفسها اليوم في مواجهة تحديات غير مسبوقة. الفيضانات ليست مجرد كارثة عابرة، بل هي ناقوس خطر يدق ليذكرنا بالتغير المناخي وتأثيراته المدمرة التي لا تعرف الحدود. وبينما تتجه الأنظار نحو تقدير الأضرار المالية والاقتصادية، يجب ألا ننسى المعاناة الإنسانية الهائلة، وتشريد الملايين، وفقدان سبل العيش التي كانت تُبنى على مدار سنوات. هل هذه الكوارث أصبحت قدرنا الجديد؟ وهل ستتعافى باكستان من هذه الضربة القاضية، أم أنها ستصارع طويلًا لتجد طريقها من جديد في عالم يتغير مناخه بوتيرة مرعبة؟ التحدي كبير، والطريق إلى التعافي يبدو طويلًا وشاقًا.

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.