بوصلة مصر الاقتصادية: رؤية موحدة لمستقبل مستدام
في عالم يضج بالتحديات الاقتصادية، وتتلاطم فيه أمواج التغيرات العالمية، تبدو الحاجة ماسة لوجود خارطة طريق واضحة، بوصلة توجه السفينة المصرية نحو شواطئ الاستقرار والازدهار. هذه ليست مجرد أمنيات، بل هي صميم ما تسعى إليه “السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية”، المشروع الطموح الذي يأمل في أن يوحّد الرؤى والجهود نحو غدٍ أفضل. فما هي هذه السردية؟ وماذا يعني أن تكون لدينا قصة اقتصادية موحدة نحكيها للعالم ولأنفسنا؟
مساء يوم حافل، اجتمع الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، مع الدكتورة رانيا المشاط، وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي، لمتابعة خطى تنفيذ الإصدار الأول من هذه السردية الحيوية. لم يكن الاجتماع روتينياً، بل كان محطة رئيسية لاستعراض ما تم إنجازه، وتوجيه الدفة نحو المراحل القادمة. فالفكرة ليست فقط في وضع خطة، بل في صياغة سرد يجمع تفاصيل الإصلاحات التي شهدتها البلاد، ويحدد ملامح المستقبل بخطوات عملية ومدروسة.
ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: ما الدور الجوهري الذي تلعبه هذه السردية؟ رئيس الوزراء كان واضحاً في تأكيده أن السردية هي الضامن الأساسي لاستدامة عمليات التنمية. تخيّل معي مجموعة من السيناريوهات المتكاملة، تعمل كأوركسترا متناغمة، كل جزء فيها يكمل الآخر. هذه هي الفكرة. الهدف الأكبر يتجسد في توحيد كل الجهود والإصلاحات التي بذلتها الدولة في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى صياغة رؤية واضحة للسنوات الخمس المقبلة، تشمل السياسات النقدية والمالية والإصلاحات الهيكلية الضرورية. الخلاصة إيه؟ كل ده عشان نخلق مناخ جذاب للاستثمار، ونعزز دور القطاع الخاص في كل الأنشطة الاقتصادية والتنموية، وده أساس أي نمو حقيقي ومستدام.
من جانبها، قدمت الدكتورة رانيا المشاط عرضاً تفصيلياً لما تحقق بعد إطلاق الإصدار الأول للسردية الوطنية. لم يقتصر الأمر على مجرد الإطلاق، بل امتد ليشمل إتاحة فصول السردية على منصة “شارك”، التي أصبحت منبراً للحوار المجتمعي البناء. هل تعرف كم كان هذا مهماً؟ عقدت لقاءات واجتماعات مكثفة مع نخبة من الخبراء الاقتصاديين، ومسؤولي القطاع الخاص، والنواب البرلمانيين، وممثلي الأحزاب السياسية، والمفكرين، بالإضافة إلى مجموعات عمل متخصصة. كل هؤلاء اجتمعوا لمناقشة مختلف بنود ومحاور السردية، واستكشاف أوجه القوة والتحسين. الهدف الواضح من كل هذه الاجتماعات هو الوصول لإصدار ثانٍ للسردية، يكون أكثر شمولية وعمقاً، ويتضمن المقترحات والتوصيات التي تم التوافق عليها مع الخبراء والمتخصصين.
وفي هذا السياق التفاعلي، لم يغب التوجيه العملي. وجّه رئيس الوزراء بضرورة الإسراع في إنهاء المناقشات الجارية بين الخبراء والمختصين. لماذا؟ لإعداد برنامج تنفيذي تفصيلي وشامل، يحدد بكل دقة المهام والمسؤوليات التي ستقع على عاتق كل وزارة خلال السنوات الخمس المقبلة. يعني مش مجرد رؤية عامة، دي خطة عمل محددة، كل واحد عارف دوره إيه بالظبط، وده اللي بيفرق بين الكلام والتنفيذ على أرض الواقع.
ثم انتقلت الوزيرة إلى محور آخر لا يقل أهمية، وهو منهجية ومراحل إعداد “الخطة القومية للتنمية المستدامة متوسطة الأجل” للفترة من 2026/2027 إلى 2029/2030. هذه الخطة، كما أوضحت المشاط، تعد الأولى من نوعها التي تستمد بشكل مباشر من السردية الوطنية، وتعتمد على منهجية البرامج والأداء. ما معنى ذلك؟ ببساطة، سيتم توجيه الموارد نحو أولويات واضحة ومحددة، قابلة للقياس والتقييم. هذا يسهم في تعزيز فاعلية الإنفاق العام، ويضمن تحقيق نتائج تنموية ملموسة على المستوى المحلي، مشروعات يشعر بها المواطن في حياته اليومية.
الإطار المنهجي لهذه الخطة الطموحة يرتكز على توفير آليات تنفيذية قوية لتحقيق أهداف السردية الوطنية. يتم ذلك من خلال إشراك جميع الجهات المعنية وفرق العمل الفنية في الوزارات في مختلف مراحل التخطيط. تخيّل معي عملية متكاملة تبدأ بتحليل الوضع الراهن بدقة متناهية، ثم تحديد المشكلات بدقة، وصياغة الأهداف بشكل واضح، وتحديد الأولويات وآليات التنفيذ والجهات المسؤولة، كل ذلك ضمن هيكل منهجي للأهداف. وهذا ليس كل شيء، فالجهود تتجه أيضاً نحو تطوير منهجية إعداد الخطة ذاتها، عبر إصدار أدلة إرشادية لتطبيق منهجية البرامج والأداء، وتعزيز قدرات المختصين في الوزارات والهيئات المختلفة، وميكنة إجراءات إعداد ومتابعة الخطط. كل ده عشان نضمن ربط المشروعات الاستثمارية بالبرامج المحددة، وتحديد مؤشرات الأداء والمستهدفات الكمية، مما يضمن في النهاية تنفيذاً فعالاً ومتابعة دقيقة لكل خطوة.
في الختام، يبدو أن مصر تسعى جاهدة ليس فقط لإدارة حاضرها الاقتصادي، بل لرسم ملامح مستقبلها بوعي وتخطيط استراتيجي. السردية الوطنية ليست مجرد وثيقة، بل هي تجسيد لرؤية جامعة تهدف إلى بناء اقتصاد أكثر مرونة وتنافسية. هل يمكن لهذه السردية أن تكون النواة الحقيقية لتغيير ملموس في حياة الملايين؟ التحدي يكمن في تحويل هذه الرؤى الطموحة إلى واقع ملموس، يشعر به كل مصري في حياته اليومية. إنها دعوة للمشاركة في صياغة قصة نجاح مصرية، قصة تستحق أن تروى للعالم، وأن تُلهم الأجيال القادمة.