في صباح يوم الاثنين، الثاني والعشرين من سبتمبر لعام 2025، استيقظت الأسواق المصرية على نبأ أشبه ما يكون بزلازل اقتصادية صغيرة، لكنها كانت كافية لتهزّ أركان العديد من البيوت والمخططات المستقبلية. صدمة، دهشة، وربما قلق خفيف ارتسمت على وجوه الكثيرين مع تداول خبر قفزة غير مسبوقة في أسعار الذهب، تلك القفزة التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ المعدن النفيس ببلادنا، جاعلةً من هذا اليوم نقطة فارقة في ذاكرة المتعاملين والمراقبين على حد سواء.
لم يكن الأمر مجرد ارتفاع اعتيادي، بل كان طفرة حقيقية. تخيّل أن جرام الذهب عيار 21، وهو الأكثر شيوعًا وتداولًا بين المصريين في المشغولات والمقتنيات، قد زاد بمقدار مائة جنيه دفعة واحدة في يوم واحد! رقم كهذا لم يكن ليمرّ مرور الكرام، بل أثار عاصفة من التساؤلات والتحليلات. وكأن السوق كان يقول لنا: “استعدوا، فالقواعد تتغير.”
هذه الأرقام ليست مجرد حبر على ورق، بل تعكس واقعًا اقتصاديًا يلامس جيوب وحياة الملايين. فبنهاية تعاملات ذلك اليوم، بلغ سعر جرام الذهب عيار 24 نحو 5737 جنيهًا مصريًا، بينما استقر عيار 21 عند حاجز 5020 جنيهًا، وعيار 18 الأكثر استخدامًا في المصوغات الفاخرة وصل إلى 4303 جنيهات. أما الجنيه الذهب، ذلك الملاذ الآمن للعديد من الأسر، فقد تخطى حاجز الأربعين ألف جنيه ليصل إلى 40160 جنيهًا، في مشهد يعكس بوضوح مدى قوة الدفع التي شهدها السوق.
ولم تكن السبائك الذهبية، التي أصبحت خيارًا مفضلًا للمستثمرين والمتطلعين للادخار، بمنأى عن هذه القفزة الهائلة. فسبائك الذهب المختلفة شهدت هي الأخرى زيادات ملحوظة: سبيكة الـ 100 جرام لامست المليون و160 ألف جنيه، بينما سبيكة الـ 50 جرامًا تجاوزت الـ 290 ألفًا. حتى السبائك الأصغر، كـ 20 جرامًا و10 جرامات و5 جرامات، تراوحت أسعارها بين 116 ألفًا و58 ألفًا و29 ألف جنيه على التوالي، وصولًا إلى الأونصة التي سجلت 180371 جنيهًا. أرقام، بصراحة، تخلي الواحد دماغه تلفّ من كتر ما هي بتطلع لفوق!
لكن ما الذي يقف وراء هذه القفزة الجنونية، وهذا الصعود الصاروخي؟ هل هو مجرد صدفة أم سلسلة من الأحداث الاقتصادية المتشابكة؟ في الحقيقة، لم يأتِ هذا الارتفاع من فراغ، بل كان محصلة لعدة عوامل رئيسية تضافرت لتخلق هذه “العاصفة الذهبية”.
أولًا وقبل كل شيء، لا يمكننا أن نتجاهل التأثير العالمي. الذهب، بصفته ملاذًا آمنًا عالميًا، شهد هو الآخر ارتفاعًا لافتًا في الأسواق الدولية، حيث قفز سعر الأوقية عالميًا إلى 3727 دولارًا أمريكيًا. هذا الارتفاع ليس بمعزل عن قرارات البنوك المركزية الكبرى، وتحديدًا البنك الفيدرالي الأمريكي، الذي اتخذ قرارًا جريئًا بخفض أسعار الفائدة. عندما تنخفض الفائدة على الودائع والسندات بالدولار، يقل جاذبية الاحتفاظ بالدولار كاستثمار، فيندفع المستثمرون نحو الأصول البديلة، والذهب هو سيد هذه الأصول. إنه بمثابة سفينة النجاة في بحر متلاطم الأمواج الاقتصادية.
وثانيًا، التأثير المحلي كان لا يقل أهمية إن لم يكن أكثر حساسية للمواطن المصري. شهد الدولار الأمريكي هبوطًا ملحوظًا مقابل الجنيه المصري في تلك الفترة. وعندما يضعف الدولار، يصبح شراء الذهب محليًا أكثر تكلفة بالجنيه المصري، وهو ما يدفع الأسعار للارتفاع تلقائيًا. لكن الأمر لا يتوقف هنا، فضعف العملة المحلية يدفع المستثمرين والمواطنين على حد سواء للبحث عن ملاذات آمنة تحمي مدخراتهم من التضخم وتقلبات الأسواق. وهنا، يبرز الذهب كالبطل الخارق الذي لا يهاب الأزمات. الناس تبدأ تقول “يا عم، الفلوس قيمتها بتقل، خليها دهب أحسن!”، وهذا التوجه يتسبب في زيادة الطلب بشكل لا يصدق.
مع هذا الطلب المتزايد على السبائك والجنيهات الذهبية محليًا، تصبح المعادلة واضحة: ارتفاع عالمي، ضعف للعملة المحلية، وقلق يدفع المواطنين نحو الذهب. كلها عوامل تصب في بوتقة واحدة، لتنتج لنا هذا المشهد التاريخي لأسعار الذهب. وكأن السوق أصبح ساحة سباق محموم، الجميع يركض نحو الذهب، يراهن عليه كملاذ أخير أمام دوامات التضخم والغموض الاقتصادي.
هل نحن أمام حقبة جديدة يعزز فيها الذهب مكانته كأداة ادخار واستثمار استراتيجية بامتياز؟ المؤشرات كلها تدل على ذلك. فكلما ارتفعت أسعار الذهب، يزداد تأكيد دوره كصمام أمان في الأوقات المضطربة. والمستثمرون والمواطنون العاديون، كلهم يتابعون بتركيز بالغ تطورات الأسعار، يتساءلون: هل ستتوقف هذه القفزة أم أننا على موعد مع المزيد من الارتفاعات والتقلبات في الأيام والأسابيع القادمة؟ لا أحد يمتلك الإجابة اليقينية، ولكن الثابت هو أن المعدن الأصفر سيبقى محور اهتمام الجميع في السوق المصري، وربما في كل بيت مصري.
في ظل هذه الأجواء الاقتصادية المتقلبة، يصبح فهم حركة الذهب ليس مجرد رفاهية، بل ضرورة اقتصادية. هل تشتري؟ هل تبيع؟ هل تنتظر؟ قرارات صعبة، لكنها ترسم ملامح مستقبل الأفراد ومستقبل الاقتصاد ككل. فالذهب، هذا المعدن الساحر، لا يزال يحتفظ ببريق خاص، وقدرة فريدة على التأثير في حياتنا، مذكّرًا إيانا دائمًا بأن الاستقرار الاقتصادي سلعة نادرة، قد يظل الذهب، في نهاية المطاف، هو خير حافظ لها.