في عالم المال، حيث تتراقص العملات على أنغام الأحداث السياسية والاقتصادية، يقف زوج اليورو/الدولار الأمريكي هذا الصباح كراقص باليه يثبت على أطراف أصابعه، في انتظار إشارة البدء التالية. هل هو هدوء يسبق عاصفة، أم مجرد وقفة لالتقاط الأنفاس قبل استئناف المسيرة؟ هذا هو السؤال الذي يشغل بال الكثيرين، فالسوق كله تقريباً يترقب، وكل طرف يحبس أنفاسه ليرى إلى أين سيُلقي به التيار.
استقر سعر صرف اليورو مقابل الدولار الأمريكي عند مستوى 1.1730 صباح يوم الخميس، متراجعًا ببضع نقاط عن أعلى مستوى بلغه هذا الأسبوع. هذا الثبات ليس بالضرورة مؤشرًا على استقرار عميق، بل يعكس حالة من الترقب والحذر الشديدين. فالخلفية التي يتداول عليها هذا الزوج ليست بسيطة على الإطلاق؛ إنها مليئة بالتحديات التي تلقي بظلالها على أكبر اقتصادين في العالم، الولايات المتحدة ومنطقة اليورو.
على الضفة الأمريكية، تتصدر الأنباء المتعلقة بالإغلاق الحكومي المشهد، وهو حدث ليس بغريب على الساحة السياسية الأمريكية، لكنه هذه المرة يدخل يومه الثاني، ملقياً بظلال من الشك على استقرار سوق العمل الهش أصلاً. ما القصة بالضبط؟ ببساطة شديدة، يتجدد الجدل المحتدم بين الديمقراطيين والبيت الأبيض حول تمويل الرعاية الصحية، ومع عدم التوصل لاتفاق، بدأت الإدارة في الإشارة إلى أنها قد تضطر لتسريح موظفين حكوميين في مختلف الوكالات. وهذا، يا سيدي الفاضل، ليس مجرد حديث في الهواء؛ فتاريخياً، كانت هذه الفترات تشهد تسريحاً مؤقتاً للعمال، والتهديد به اليوم يضع ضغوطاً هائلة على الديمقراطيين المتمسكين بموقفهم الرافض لشمول تمويل الرعاية الصحية ضمن أي حزمة إنفاق. يعني بالمصري كده، الدنيا مقلوبة شوية، والناس مش عارفة إيه اللي ممكن يحصل.
الجانب الأكثر قلقًا هو تأثير هذا الإجراء المحتمل على سوق العمل الأمريكي، الذي لا يزال يتعافى بصعوبة. فإذا أضفنا عمليات التسريح هذه إلى البيانات الأخيرة، تصبح الصورة قاتمة بعض الشيء. لقد أظهر تقرير صادر عن مؤسسة ADP أن الاقتصاد الأمريكي فقد أكثر من 36 ألف وظيفة في شهر سبتمبر الماضي، وهو رقم صادم حقًا، خاصة وأنه يأتي أقل بكثير من متوسط التقديرات التي كانت تتوقع إضافة 50 ألف وظيفة جديدة. فهل يعقل أن يبقي الاحتياطي الفيدرالي على أسعاره مرتفعة في ظل هذه الظروف؟ المؤشرات كلها تشير إلى العكس تماماً.
هذه الأرقام الكئيبة لسوق العمل، إضافة إلى الضغوط الناتجة عن الإغلاق الحكومي، تزيد من احتمالات أن يُقدم مجلس الاحتياطي الفيدرالي على خفض أسعار الفائدة في اجتماعه المقرر لشهر أكتوبر. وهذا، إن حدث، سيكون الخفض الثاني على التوالي، ومن المتوقع أن يدفع بأسعار الفائدة إلى نطاق يتراوح بين 3.75% و4%. فلو صح هذا التوقع، فسيشكل ذلك تحولاً كبيراً في السياسة النقدية الأمريكية، وله تبعات هائلة على جاذبية الدولار.
على الجهة الأخرى من الأطلسي، يبدو المشهد مختلفاً تماماً في منطقة اليورو. فالبنك المركزي الأوروبي (ECB) يلوح، تلميحاً لا تصريحاً، بأنه سيبقي أسعار الفائدة دون تغيير في المستقبل المنظور. لماذا هذا التباين؟ ببساطة، لأن التضخم في منطقة اليورو لا يزال قريباً من هدفه المحدد عند 2%. وقد أظهر تقرير صدر يوم الأربعاء أن مؤشر أسعار المستهلك الرئيسي ارتفع قليلاً من 2% إلى 2.2%، بينما ظل مؤشر أسعار المستهلك الأساسي ثابتاً عند 2.3%. هذه الأرقام مطمئنة نسبياً، وتدعم موقف البنك المركزي الأوروبي بالإبقاء على السياسة النقدية الحالية. وكأن هناك قائدي أوركسترا يعزفان لحنين مختلفين تماماً، كلٌ منهما مدفوع بظروفه الاقتصادية. وقد أكد لويس دي غيندوس، نائب رئيس البنك المركزي الأوروبي، هذا التوجه في تصريحاته الأخيرة، مشيراً إلى أن البنك سيبقي على أسعار الفائدة ثابتة في الاجتماعات القادمة.
أما عن التحليل الفني لزوج اليورو/الدولار الأمريكي، فإنه يكشف عن قصة مثيرة من الصعود والهبوط. فقد بلغ الزوج ذروته عند مستوى 1.1915 في سبتمبر، قبل أن يتراجع إلى مستويات 1.1657 في 26 سبتمبر. لكن المثير للاهتمام، والمطمئن في الوقت نفسه، هو أنه ظل أعلى خط الاتجاه الصاعد الذي يربط أدنى التقلبات منذ مايو من العام الماضي. هذا الخط، يا جماعة الخير، يوفر دعماً كبيراً للزوج، ويُعتبر بمثابة “حائط صد” يمنع انزلاقه أكثر. ليس هذا فحسب، بل ظل الزوج أيضاً فوق المتوسطين المتحركين الأسيين (EMA) لـ 50 و100 يوم، وهو ما يُعد إشارة فنية إيجابية. لذا، يمكن القول ببساطة شديدة، أن اليورو/الدولار مرشح للصعود طالما ظل فوق خط الاتجاه الصاعد هذا. ولكن، أي انخفاض دونه، قد يشير إلى مزيد من الانخفاضات.
في النهاية، يبدو أن زوج اليورو/الدولار الأمريكي يجد نفسه في خضم معركة حقيقية بين قوتين متضادتين: التحديات الاقتصادية والسياسية في الولايات المتحدة التي تدفع الدولار نحو الضعف، مقابل الاستقرار النسبي في منطقة اليورو الذي يدعم اليورو. ما سيحدث في الأيام القليلة القادمة، خاصة مع تطورات الإغلاق الحكومي وقرارات الاحتياطي الفيدرالي، سيحدد مسار هذا الزوج الحيوي. فهل سنشهد كسرًا للاتجاه الحالي، أم أن الهدوء سيطول قبل أن تعود الحركة بقوة؟ الأيام القادمة وحدها هي الكفيلة بالإجابة. فالمستثمر الواعي هو من يتابع هذه التطورات عن كثب، لأنها تؤثر ليس فقط على أسعار العملات، بل على مناخ الاستثمار العالمي ككل.