كأن البلاد على موعد متكرر مع “فصل” جديد من فصول الدراما السياسية الأمريكية، حيث تتأرجح الحكومة الفيدرالية على حافة الإغلاق، ويظل مصير مئات الآلاف من الموظفين الفيدراليين، بل والخدمات الأساسية للمواطنين، معلقاً في الهواء. هذه ليست مجرد معركة حول الأرقام في الموازنة، يا جماعة، بل هي لعبة قوى حقيقية قد تمنح الرئيس السابق دونالد ترامب – أو بالأحرى إدارته – سلطة واسعة وغير مسبوقة على كيفية إنفاق أموال دافعي الضرائب.

المشهد الأخير الذي قادنا إلى هذه الحافة كان الثلاثاء الماضي، عندما ألغى ترامب اجتماعاً حاسماً كان مقرراً مع كبار قادة الديمقراطيين في الكونغرس. كان الهدف من الاجتماع مناقشة تمويل الحكومة وتجنب شبح الإغلاق الجزئي المتوقع الأسبوع المقبل. لكن يبدو أن الرئيس السابق، بطريقته المعهودة، رأى في الحل الوسط نوعاً من الضعف. كتب ترامب، في منشور على منصة “تروث سوشيال” التي يمتلكها: “لقد قررتُ أنه لا يمكن لأي اجتماع مع قادتهم (الديمقراطيين) في الكونغرس أن يكون مثمراً”. هذه الكلمات كانت بمثابة رصاصة أطلقت شرارة التوتر، وأشعرت الكثيرين بأننا على وشك أزمة حقيقية.

وبعدها، كالمتوقع، بدأت حرب التصريحات والاتهامات المتبادلة. الديمقراطيون، ممثلين بالزعيمين تشاك شومر في مجلس الشيوخ وحكيم جيفريز في مجلس النواب، أكدوا أن ترامب كان قد وافق على الاجتماع قبل انتهاء التمويل الحكومي في الثلاثين من سبتمبر. هم يرون أن ترامب والجمهوريين “يحتجزون أمريكا رهينة”، وأنهم غير مستعدين للتعاون لتجنب هذا الإغلاق الذي قد يوقف مجموعة واسعة من الخدمات الفيدرالية ويسرّح مؤقتاً مئات الآلاف من الموظفين. في المقابل، يلقي الجمهوريون اللوم على الديمقراطيين، متهمين إياهم بالتعنت.

لكن ما الذي يجعل هذا الإغلاق المحتمل، أو حتى مجرد تمديد طويل الأجل للتمويل الحالي، أمراً بهذا القدر من الخطورة؟ المسألة لا تتوقف عند تعطيل الخدمات أو تسريح الموظفين، وهذا بحد ذاته كارثة. الأمر الأعمق، والأقل وضوحاً للعامة، هو أن إدارة ترامب ستكتسب، في أي من السيناريوهين، نفوذاً واسعاً وغير عادي على قرارات الإنفاق. تخيلوا معي، لو أغلقت الحكومة، سيصبح لترامب ومكتب الإدارة والموازنة في البيت الأبيض سلطة تحديد الوكالات والمكاتب التي ستبقى مفتوحة وتلك التي ستتوقف عن العمل. هذا يعني أنهم يستطيعون انتقاء وتفضيل بعض القطاعات على حساب أخرى، بناءً على أولوياتهم الخاصة، وليس بالضرورة أولويات الكونغرس أو احتياجات الناس الفعلية.

الأدهى من ذلك، وحتى لو تم التوصل إلى “تمديد” للتمويل، وهو ما يطلق عليه في واشنطن “القرار المستمر” (CR)، فإن هذا التمديد نفسه يمنح الإدارة مساحة أوسع بكثير لتحديد كيفية إنفاق الأموال الفيدرالية مقارنة بالعمليات التشريعية المعتادة. ببساطة، قوانين التخصيص أو الإنفاق التي يقرها الكونغرس عادة ما تأتي مع تقارير تفصيلية يتم التوافق عليها بين الحزبين، تحدد بدقة مقدار الأموال المخصصة لكل برنامج. لكن تمديدات التمويل الطويلة، زي ما بيقولوا، “بتطنش” هذه التقارير غالباً، تاركة تمويلاً غير محدد في كل وكالة يمكن توجيهه “حسب رغبة الإدارة”. يعني، كأن الكونغرس يوافق على مبلغ إجمالي، والإدارة هي اللي بتقول الفلوس دي تروح فين بالظبط.

هذا الموقف، بحسب النائبة مادلين دين الديمقراطية، عضوة لجنة المخصصات في مجلس النواب، ليس جديداً. هي ترى أن إدارة ترامب “قد استولت بالفعل على هذه السلطة”، وأن سلطة المادة الأولى الدستورية – التي تمنح الكونغرس صلاحية الإنفاق – قد انتزعت من لجانهم بسبب موافقة الأغلبية الجمهورية على تمديدات سابقة. كلام خطير، صح؟ يعني بالمختصر، الديمقراطيون حاسين إنهم “متكتفين”، والكرة في ملعب ترامب وإدارته، خصوصاً مع عدم نشر خطط التوظيف الحكومي في حالة الإغلاق، وهو أمر غير معتاد.

تذكروا ما حدث في مارس الماضي؟ واجه الديمقراطيون معضلة مشابهة. انضمت مجموعة منهم في مجلس الشيوخ إلى الجمهوريين للموافقة على طلب تمديد مستمر غطى ستة أشهر من التمويل الحكومي. لماذا؟ خوفاً من أن يؤدي الإغلاق إلى تمكين مدير مكتب الإدارة والموازنة راسل فوت، وإيلون ماسك (الذي كان حينها رئيساً لخدمة خفض التكاليف)، من إلغاء أعداد كبيرة من الوكالات الفيدرالية. لكن هذا التمديد الطويل لم يمر دون عواقب غير مقصودة، فقد سهّل توجيه الأموال بعيداً عن الأولويات التي حددها الكونغرس نحو أولويات الإدارة الخاصة. تحويل تمويل إضافي لسلاح المهندسين بالجيش إلى الولايات الجمهورية، أو إعادة توجيه تمويل وزارة التعليم من منح المعلمين والتعليم المبكر إلى المدارس المستقلة وبرامج التربية المدنية والكليات القبلية، هي أمثلة واضحة على هذه التحويلات. تشارلز كيفر، الذي عمل سابقاً في مكتب الإدارة والموازنة في إدارات جمهورية وديمقراطية، يؤكد أن هذا ليس قانوناً، بل “ممارسة راسخة منذ زمن طويل”، وأن “هذه الإدارة في وضع مختلف”.

وماذا عن المستقبل؟ بعض الجمهوريين يقترحون الاستمرار في تمويل الحكومة بتمديد التمويل الحالي إلى ما بعد نوفمبر، متجاوزين عملية تخصيص هذا العام بالكامل. وهذا، يا سيدي، ما يخشاه الديمقراطيون، فهو يقوّض موقفهم في المستقبل ويضعف من سلطتهم التشريعية.

الديمقراطيون، من جانبهم، يصرون على ضرورة تمديد الإعفاء الضريبي المؤقت لأقساط التأمين الصحي المدعومة فيدرالياً، والذي ينتهي في ديسمبر. يشير شومر إلى أن عدم التمديد قد يرفع أقساط المواطنين بأكثر من 75%، واصفاً إياها بأنها “الفرق بين أن تتمكن الأسرة من سداد قسط الرهن العقاري أو الحصول على الرعاية الصحية”. يعني الموضوع هنا بالنسبة لهم مش مجرد سياسة، ده حياة ناس. لكن الجمهوريين، رغم عدم إغلاق الباب تماماً أمام هذا التمديد، لا يرون أن مشروع القانون المؤقت للتمويل هو الحل الأمثل.

تغير موقف شومر والديمقراطيين حالياً واضح جداً. بعد الغضب الذي انتاب الجناح اليساري للحزب عندما أيّد شومر وآخرون قرار مجلس الشيوخ بشأن الإصلاحات الضريبية في مارس، متهمين إياهم بالتهرب من مواجهة ترامب، يقول شومر اليوم إنه لن يكرر هذه الخطوة. “لقد تغيّر العالم تماماً منذ مارس”، هكذا صرح، مستشهداً بـ “الضرر الذي ألحقه الجمهوريون” و”تدمير مشروع قانون المصالحة للرعاية الصحية” ودخول الرسوم الجمركية حيز التنفيذ مما “زاد من تكاليف المواطنين بشكل كبير”. وأضاف: “لقد شهدنا عدم قانونية إدارة ترامب بعد مارس، مع عمليات الإلغاء والحجز وإلغاءات الجيب. لذا أصبح العالم مكاناً مختلفاً الآن”.

هذه المعركة المستمرة، التي تتجاوز مجرد التفاصيل البيروقراطية للموازنة، تثير تساؤلات أعمق حول طبيعة الحكم في أمريكا. هل نحن أمام مشهد يتكرر فيه الاستقطاب السياسي لدرجة تعطيل عمل الحكومة بشكل متكرر؟ وهل يعتاد المواطنون على فكرة أن مصير الخدمات الأساسية يعتمد على الصراعات الحزبية؟ هذه التحديات لا تهدد استقرار الحكومة فحسب، بل تهز الثقة في المؤسسات الديمقراطية برمتها. هل سيتمكن الكونغرس من استعادة زمام المبادرة وحماية سلطته الدستورية، أم أننا سنشهد المزيد من “الاستيلاء على السلطة” التنفيذية في ظل هذه الأجواء المشحونة؟ الأيام القادمة ستحمل الإجابة، ولكن المؤكد أنها ستكون أياماً حاسمة للسياسة الأمريكية.

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.