تخيل لو سعر البنزين اللي بتمونه كل يوم الصبح، أو حتى أسعار السلع الأساسية اللي بتشتريها، مربوطة بخيط رفيع بحركات دبلوماسية معقدة وتوترات عسكرية في قارات تانية خالص؟ للوهلة الأولى، يبدو الأمر بعيدًا عن واقعنا اليومي، لكن هذا هو بالضبط ما يحدث في أسواق النفط العالمية. فمع كل تصعيد أو تهديد، تُصدر أسعار الذهب الأسود صدى فوريًا، وتُخبرنا بأن العالم مترابط أكثر مما نتخيل. وهذا ما شهدناه مؤخرًا، حيث ارتفعت أسعار النفط العالمية يوم الاثنين الماضي، مدفوعةً برياح الاضطرابات العاتية التي هبّت من أرجاء أوروبا والشرق الأوسط، في سيناريو يبدو وكأنه استعارة حية لمدى هشاشة توازن عالمنا.
في بداية التعاملات الآسيوية، سجلت العقود الآجلة لخام برنت ارتفاعًا قدره 34 سنتًا، أي ما يعادل 0.54 في المائة، لتصل إلى 67.07 دولارًا للبرميل الواحد. هذا الصعود لم يكن معزولًا، فقد تبعه خام غرب تكساس الوسيط (WTI) بارتفاع مماثل قدره 34 سنتًا (0.54 في المائة) ليصل إلى 63.02 دولارًا للبرميل، وذلك في عقد أكتوبر الذي كان على وشك الانتهاء. أما عقد نوفمبر، وهو الأكثر نشاطًا حينها، فقد شهد ارتفاعًا أكبر بقليل بلغ 36 سنتًا، أي 0.58 في المائة، مسجلًا 62.76 دولارًا للبرميل. هذه الأرقام، وإن بدت صغيرة للبعض، تحمل في طياتها قصصًا عن التوترات الجيوسياسية التي أخذت تتفاقم على الساحة الدولية.
القطاع الأوروبي، على وجه الخصوص، كان بؤرة التوتر. فخلال عطلة نهاية الأسبوع التي سبقت الارتفاع، كانت الأنباء تتوالى عن تصعيد روسي بالقرب من الحدود البولندية. وفي تصريح لافت، ذكّر مايكل مكارثي، الرئيس التنفيذي لمنصة الاستثمار “مومو” في أستراليا ونيوزيلندا، بأن التقارير التي تحدثت عن “تهديد روسيا عبر الحدود البولندية” جاءت بمثابة جرس إنذار للمتداولين، مُسلطةً الضوء على المخاطر المستمرة التي تهدد أمن الطاقة الأوروبي من الجهة الشمالية الشرقية للقارة. هذه التهديدات لم تكن مجرد تكهنات، بل كانت مصحوبة بتحركات عسكرية حقيقية.
يوم السبت، أعلنت القوات المسلحة البولندية وحلفاؤها عن نشر طائرات مقاتلة لضمان سلامة المجال الجوي البولندي، وذلك بعد أن شنت روسيا غارات جوية استهدفت غرب أوكرانيا، بالقرب من الحدود مع بولندا. يعني بصراحة، الموضوع مش بسيط، لما يكون فيه طيران حربي بيتحرك في المنطقة بالشكل ده، طبيعي إن كل الناس تقلق. ولم تتوقف الأحداث عند هذا الحد، فقبل ذلك بيوم واحد، أي يوم الجمعة، اخترقت ثلاث طائرات عسكرية روسية المجال الجوي لإستونيا – وهي دولة عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) – لمدة اثنتي عشرة دقيقة كاملة، مما أثار استياءً واسعًا. وفي يوم الأحد، أبلغت القوات الجوية الألمانية عن حادثة أخرى، حيث دخلت طائرة عسكرية روسية المجال الجوي المحايد فوق بحر البلطيق، وهذا كله قبل الاجتماع الطارئ لمجلس الأمن الدولي يوم الاثنين لمناقشة اتهام إستونيا.
بالتوازي مع هذه التوترات، كثفت أوكرانيا في الأسابيع الأخيرة هجماتها بطائرات مسيرة على البنية التحتية للطاقة الروسية، مستهدفة محطات ومصافي حيوية، وهو ما يضيف طبقة أخرى من التعقيد إلى المشهد. ولم يغفل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن استغلال هذه التطورات، حيث حث الاتحاد الأوروبي على وقف مشتريات النفط والغاز الروسية، في خطوة قد تزيد من الضغط على السوق العالمية للطاقة.
ولم تكن أوروبا وحدها مسرحًا للتوترات، فالشرق الأوسط، تلك المنطقة الحساسة التي تضخ نسبة كبيرة من نفط العالم، شهدت تطورات سياسية لم تمر مرور الكرام. فقد اعترفت أربع دول غربية بدولة فلسطين، في قرار أثار رد فعل غاضبًا من إسرائيل، مما فاقم من التوتر في هذه المنطقة الرئيسية المنتجة للنفط. الحكاية مش ناقصة توترات هناك، وأي شرارة ممكن تولّع الدنيا، وده بيخلي أسعار النفط حساسة لأي خبر.
لكن الصورة لم تكن أحادية الجانب تمامًا، فالأسواق لا تتحرك في اتجاه واحد فقط. فقبل هذه الارتفاعات، كانت أسعار خام برنت وغرب تكساس الوسيط قد انخفضت بأكثر من 1 في المائة يوم الجمعة، مسجلة تراجعًا طفيفًا على مدار الأسبوع الماضي. لماذا؟ لأن المخاوف بشأن الإمدادات الكبيرة التي تفيض في السوق وتراجع الطلب العالمي قد طغت على التوقعات بأن أول خفض لأسعار الفائدة هذا العام من قِبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي قد يحفز المزيد من الاستهلاك. يعني كان فيه اتجاه هابط، وبعدين الأحداث الجيوسياسية دي قلبت الترابيزة.
وفي سياق الحديث عن الإمدادات، أعلنت شركة تسويق النفط العراقية (سومو) يوم الأحد أن العراق قد زاد صادراته النفطية، بعد التراجع التدريجي عن تخفيضات الإنتاج الطوعية التي اتفق عليها ضمن اتفاقية “أوبك بلس”. وبلغ متوسط صادرات العراق من النفط 3.38 مليون برميل يوميًا في أغسطس، ووفقًا لوزارة النفط، تتوقع “سومو” أن يتراوح متوسط صادرات سبتمبر بين 3.4 مليون و3.45 مليون برميل يوميًا. هذه الزيادة في المعروض من مصدر رئيسي مثل العراق تُعد عاملًا ضاغطًا على الأسعار، وقد تحد من أي صعود حاد.
يؤكد تيم إيفانز في نشرته “إيفانز أون إنرجي” هذا التوجه، مشيرًا إلى أن “زيادة المخزونات خلال الأشهر الستة الماضية أكدت أن العرض يفوق الطلب”. ويضيف أن “الاحتياطيات الاستراتيجية المتزايدة التي راكمتها كل من الصين والولايات المتحدة قد ساعدت على امتصاص الفائض، لكن هذه المخزونات الإضافية لا تزال تُقلل من احتمالات ارتفاع الأسعار على المدى القريب، وتُبقي احتمالات الهبوط مفتوحة”. بمعنى آخر، فيه مخزون كبير في الأسواق، وده بيعمل زي وسادة بتخفف الصدمات، وبتخلي أي ارتفاع كبير في الأسعار صعب شوية.
في النهاية، ما نشهده هو رقصة معقدة بين القوى الجيوسياسية التي تدفع الأسعار نحو الارتفاع، وبين عوامل العرض والطلب التي تسحبها للأسفل. هل ستستمر التوترات في إشعال أسعار النفط، أم أن وفرة المعروض ستكبح جماحها؟ وكيف سيؤثر ذلك على جيوبنا، نحن المستهلكين؟ هذا التوازن الدقيق هو ما يجعل سوق النفط مرآة عاكسة للاستقرار العالمي، ومع كل تقلب، يُصبح واضحًا أن السلام والأمان ليسا مجرد مفاهيم بعيدة، بل هما أساس الاقتصاد الذي نعيش فيه.