سوق النفط: تنهيدة ارتياح بعد موجة اضطراب عالمي

بعد أيام من التخبط والتراجعات المتتالية التي أثارت قلق الكثيرين، عادت أسعار النفط اليوم لتلتقط أنفاسها، منهيةً مسلسل الخسائر الذي استمر لثلاثة أيام، ومستعيدة بعض عافيتها من أدنى مستوياتها منذ ستة عشر أسبوعًا. هي ليست مجرد أرقام ترتفع وتنخفض على شاشات البورصات العالمية، بل هي نبض يؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في جيوبنا وفي اقتصاديات دول بأكملها، فهل نشهد بداية استقرار أم مجرد هدنة في حرب الأسعار المستمرة؟

لقد شهدت العقود الآجلة لخام برنت ارتفاعًا طفيفًا بلغ 15 سنتًا، أو ما يعادل 0.2%، ليستقر عند مستوى 65.50 دولارًا للبرميل. وعلى الجانب الآخر، زاد خام غرب تكساس الوسيط الأمريكي (WTI) بـ 14 سنتًا، أي بنسبة 0.2%، ليصل إلى 61.92 دولارًا للبرميل، وذلك وفقًا للتقارير الصادرة عن وكالة الأنباء السعودية “واس”. هذه الزيادة، وإن كانت متواضعة، إلا أنها تحمل دلالات مهمة بعد موجة هبوط حادة كان فيها الخامان قد خسرا حوالي 1% من قيمتهما. لنتخيل بس كده، برنت كان وصل لأدنى سعر له من 5 يونيو، وخام تكساس من 30 مايو. يعني نقدر نقول السوق خد نفس بعد رحلة نزول مرهقة.

ما الذي دفع هذه الأسعار للصعود في ظل هذا الجو المتقلب؟ يعزو المحللون هذا الانتعاش إلى عدة عوامل متداخلة. فبحسب كبير المحللين لدى “نيسان سيكيوريتيز”، هيرويوكي كيكوكاوا، فإن اقتراب خام تكساس من حاجز الـ 60 دولارًا للبرميل كان بمثابة نقطة جذب سحرية للمشترين، محفزًا موجة من الإقبال على الشراء. أصل يا جماعة، السعر لما يقرب من حاجز نفسي زي الستين دولار، بيبقى عامل زي الإشارة الخضرا للمستثمرين اللي كانوا مترددين، فبيبتدوا يدخلوا السوق بقوة. لم يقتصر الدعم على ذلك فحسب، بل ساهمت المخاطر الجيوسياسية المتزايدة عالميًا، إضافة إلى التكهنات بتشديد العقوبات على النفط الروسي، في توفير دفعة إضافية للأسعار، معززةً المخاوف بشأن الإمدادات المستقبلية.

لكن الأمر لا يخلو من بعض المفارقات التي قد تثير الحيرة. ففي الوقت الذي ارتفعت فيه الأسعار، أظهرت بيانات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أن مخزونات النفط الخام والبنزين ونواتج التقطير في الولايات المتحدة زادت الأسبوع الماضي، في ظل تراجع واضح في نشاط التكرير والطلب. يعني هو فيه إيه بالظبط؟ مخزونات النفط الخام لوحدها ارتفعت بـ 1.8 مليون برميل لتصل إلى 416.5 مليون برميل في الأسبوع المنتهي في 26 سبتمبر. هذه البيانات، في أي سوق آخر، قد توحي بتراجع الأسعار لا ارتفاعها، مما يضيف طبقة أخرى من التعقيد إلى فهم الديناميكيات الحالية. هل هو مجرد رد فعل مؤقت، أم أن عوامل أخرى أقوى تتحدى منطق العرض والطلب التقليدي؟

وفي سياق آخر لكنه وثيق الصلة، تواصل الدول الأعضاء في تحالف “أوبك+” رسم خرائط طريقها لضمان استقرار السوق على المدى الطويل. فقد قررت الدول المشاركة إجراء تعديل في الإنتاج قدره 137 ألف برميل يوميًا، وهو جزء من التخفيضات الطوعية الإضافية الأكبر التي بلغت 1.65 مليون برميل يوميًا وأُعلن عنها في أبريل 2023. لكن هذه المرة، يطبق هذا التعديل اعتبارًا من أكتوبر 2025. يبدو وكأنهم بيلعبوا شطرنج على المدى الطويل، بيحاولوا يضبطوا السوق خطوة بخطوة. أكدت الدول الأعضاء التزامها المستمر باتفاقية “إعلان التعاون”، مؤكدةً أن هذا الإجراء الجديد يمنحها فرصة لتعزيز سرعة التعويض التدريجي عن الكميات الزائدة، على أن يتم مراقبة الالتزام بهذه التعديلات بدقة من قبل اللجنة الوزارية المشتركة لمراقبة الإنتاج.

وكأن المشهد الاقتصادي العالمي ليس معقدًا بما فيه الكفاية، تتشابك خيوط “حروب التجارة” وتأثيراتها الجيوسياسية مع أسواق الطاقة. ففي الوقت الذي تواصل فيه الولايات المتحدة توجيه تحذيراتها إلى دول مثل الصين والهند وبعض الدول الأخرى، بشأن استمرارها في استيراد النفط الروسي رغم العقوبات المفروضة، لا تزال حرب الرسوم الجمركية قائمة ومؤثرة. لكن يبدو أن هناك بارقة أمل، فقد جددت الصين والولايات المتحدة، في 11 أغسطس الماضي، اتفاقهما التجاري للمرة الثانية بعد انتهاء مهلة الـ 90 يومًا لتعليق الرسوم الجمركية بينهما. هذا الاتفاق، الذي توصل إليه البلدان في جنيف، أسفر عن تخفيضات كبيرة؛ فالولايات المتحدة قلصت تعريفاتها الجمركية على السلع الصينية من 145% إلى 30%، بينما خفضت الصين رسومها الجمركية على الواردات الأمريكية من 125% إلى 10%. يعني من الآخر، الدنيا كلها شبكة علاقات ومصالح متشابكة، وأي حركة في أي حتة بتأثر في كل حتة. وحتى الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كان قد توصل في أغسطس الماضي إلى اتفاق تجاري كبير مع الاتحاد الأوروبي، تضمن تطبيق تعريفات جمركية بنسبة 15%، مما يؤكد أن ملف التجارة العالمية لا يزال ورقة ضغط قوية في يد القوى الكبرى.

في المحصلة، يعكس هذا الارتفاع البسيط في أسعار النفط اليوم مدى هشاشة وتأثر السوق بالعوامل المتغيرة، من التوترات الجيوسياسية وتكهنات العقوبات، وصولًا إلى استراتيجيات كبار المنتجين وديناميكيات التجارة العالمية. ما الذي تعنيه كل هذه التقلبات بالنسبة لنا كأفراد أو للاقتصاد العالمي ككل؟ ببساطة، تعني أن أسعار الوقود في محطات البنزين، وتكاليف النقل، وأسعار السلع، جميعها ترقص على إيقاع هذه التغيرات. فالاقتصاد العالمي اليوم يشبه سفينة تبحر في بحر هائج، تتلاطمها الأمواج من كل حدب وصوب، ولا يملك ربانها سوى اليقظة الدائمة ومحاولة التكيف مع كل موجة جديدة. هل سنشهد استقرارًا حقيقيًا قريبًا، أم أن هذه التقلبات هي “الوضع الطبيعي الجديد” الذي علينا التعايش معه؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.