Ahmed
المغرب يفك شفرة المستقبل المالي: بين طموح العملات الرقمية ومتانة الاستقرار الاقتصادي
في عالمٍ تتسارع فيه وتيرة التغيرات الرقمية، وتُعاد فيه صياغة مفهوم المال ذاته، هل تخيّلتم يوماً أن العملات المشفرة، التي كانت حتى وقت قريب تُوصَف بأنها “الحدود البرية” للتمويل، ستجد لها مكاناً آمناً ومنظماً في أحد أقدم النظم الاقتصادية بالمغرب؟ هذا بالضبط ما أشار إليه عبد اللطيف الجواهري، والي بنك المغرب، في تصريحٍ ينمّ عن بصيرة استباقية ووعي عميق بالمستقبل، معلناً أن البنك المركزي قد طلب من الأمانة العامة للحكومة إعطاء الأولوية لمشروع قانون حيوي لتنظيم العملات الرقمية. يا جماعة الخير، الموضوع أكبر من مجرد قرار إداري؛ إنه خطوة استراتيجية نحو ترسيخ دعائم المغرب في صلب الثورة المالية العالمية.
جاء هذا الإعلان الهام في ختام الاجتماع الفصلي الثالث لمجلس بنك المغرب، حيث لم يكتفِ الجواهري بالكشف عن النية التشريعية فحسب، بل أكد على أن هذا المشروع القانوني ليس وليد اللحظة. تخيلوا معي، ثلاث سنوات كاملة من العمل الدؤوب والمشاورات المكثفة، بالتعاون مع جهات دولية مرموقة كالبنك الدولي، لضمان صياغة إطار قانوني شامل ومتين. والهدف واضح: تزويد هذا القطاع الناشئ – والخطير في آن – ببوصلة ترشده، تمكّن من منح التراخيص اللازمة، وتفرض رقابة صارمة على الأنشطة المتصلة به، والأهم من ذلك كله، حماية المستثمرين من التقلبات والمخاطر التي لطالما ارتبطت بهذه العملات الافتراضية. يعني بصراحة كده، الموضوع مش هزار، دي فلوس ناس.
لماذا الآن بالذات؟ هل الأمر مجرد مواكبة للتيار؟ لا يا سيدي، المسألة أعمق من ذلك بكثير. أشار والي بنك المغرب إلى أن الحاجة لتقنين العملات المشفرة أصبحت ملحة أكثر من أي وقت مضى، ليس فقط لتطور السوق المحلي، بل استجابة لتوصيات عالمية قوية. مجموعة العشرين (G20) والبنوك المركزية الكبرى حول العالم، كلها أجمعت على ضرورة وجود تنظيم رسمي لهذا القطاع المتنامي. فكيف يمكن لدولة طموحة كالمغرب أن تتخلف عن ركب هذا الإجماع العالمي؟ إنها رؤية واضحة لمستقبل لا يعترف بالحدود، ولا يمكن فيه إغفال التطورات التكنولوجية المتسارعة التي تعيد تشكيل كل جانب من جوانب حياتنا، بما فيها المال.
لكن حديث الجواهري لم يتوقف عند حدود العملات الرقمية. فقد أضاف بعداً آخر يعكس حكمة الإدارة المالية للمملكة، وهي طمأنة الأسواق بشأن السنة المالية المقبلة، التي تتزامن مع سنة انتخابية قد يراها البعض محفوفة بالمخاطر. أكد والي بنك المغرب أن المملكة ملتزمة بكافة تعهداتها الدولية مع المؤسسات المالية العالمية مثل صندوق النقد الدولي. وهذه ليست مجرد كلمات؛ بل هي سياسات اقتصادية راسخة تضمن استقراراً مالياً قوياً، حتى في أوقات التحديات السياسية أو الاقتصادية. الأمر أشبه بالربان الذي يعرف كيف يبحر بسفينته بأمان حتى في أعنف العواصف.
وفي سياق التزامات المغرب هذه، تحدث الجواهري بالتفصيل عن شروط خط الائتمان الخاص الذي تبلغ قيمته 3.5 مليار دولار أمريكي، والذي يتطلب الحفاظ على عجز الميزانية دون 3.5% ومستوى المديونية دون 65%. وأكد بثقة أن هذه الشروط سيتم الالتزام بها بدقة متناهية. ما الرسالة التي يبعثها هذا؟ ببساطة، أن المغرب ليس فقط يمتلك رؤية مستقبلية، بل يمتلك أيضاً الانضباط المالي اللازم لتحقيق هذه الرؤية دون المساس بالاستقرار الاقتصادي. إنها معادلة صعبة ينجح المغرب في حلها ببراعة.
ولعل الأهم من ذلك كله هو ما أشار إليه الجواهري حول استقلالية القرار المالي للمملكة، والتي تتيح لها الاستفادة من خط الائتمان هذا في أي وقت تشاء دون قيود. هذا يعكس متانة النظام المالي المغربي، وقدرته على تحقيق التوازن المثالي بين الاستقرار الاقتصادي الذي هو أساس أي نمو، وبين الانفتاح الواعي والمدروس على الابتكارات المالية الرقمية التي لا مفر منها. إنها شهادة على أن المغرب لا يخشى التغيير، بل يحتضنه بذكاء وحصافة.
في الختام، ما الذي يعنيه هذا كله لنا كأفراد أو لمستقبل المغرب؟ إنها خطوة عملاقة نحو تأسيس بيئة مالية حديثة تجمع بين أمان النظم التقليدية ومرونة الابتكارات الرقمية. فبدلاً من أن تظل العملات المشفرة كالسفينة التي تبحر بلا ربان في بحر متلاطم، تسعى الرباط إلى تزويدها بمنارة ترشدها. وهذا لا يضمن فقط حماية المستثمرين، بل يفتح الباب أمام فرص استثمارية جديدة ويعزز من جاذبية المغرب كمركز مالي إقليمي. هل يمكن للمغرب أن يصبح نموذجاً يحتذى به في الموازنة بين الحداثة المالية والحصافة الاقتصادية؟ الأيام القادمة وحدها ستكشف ذلك، لكن المؤشرات الأولية تبدو واعدة، وتؤكد أن المغرب يسير بخطى ثابتة نحو مستقبل مالي مستقر ومزدهر، في ظل عالم لا يتوقف عن التغير.
