المغرب يهمس بخبر جيد: تباطؤ التضخم يعيد الأمل إلى جيوب المستهلكين
هل ما زالت ذكرى ارتفاع الأسعار المتسارع حاضرة في أذهانكم؟ تلك الأيام التي كنا نترقب فيها نشرات الأخبار الاقتصادية بقلق، ونتساءل إلى متى ستستمر هذه الدوامة التي تلتهم جزءًا كبيرًا من مدخراتنا؟ يبدو أن المغرب، بخطى ثابتة وإن كانت هادئة، يخرج من هذه الدوامة، حاملًا معه إشارة إيجابية قد تعيد بعض الهدوء إلى الأسواق وجيوب المستهلكين على حد سواء.
فقد كشفت الأرقام الصادرة مؤخرًا عن المندوبية السامية للتخطيط في المغرب، عن نبأ يدعو للتفاؤل، حيث سجلت أسعار المستهلكين خلال شهر أغسطس زيادة متواضعة للغاية بلغت 0.3% على أساس سنوي. يعني إيه بقى الكلام ده كله؟ بصراحة كده، ده يعتبر أدنى معدل لوتيرة التضخم تشهده المملكة منذ أبريل من عام 2024. يعني الموضوع ماشي في الاتجاه الصحيح.
هذه الزيادة الطفيفة، التي تبدو وكأنها همسة في وجه الارتفاعات الصاخبة التي عشناها سابقًا، جاءت نتيجة لارتفاع محدود في أسعار المواد الغذائية بنسبة 0.2%، بينما سجلت أسعار المواد غير الغذائية ارتفاعًا لا يتجاوز 0.3%. هل هذا يعني أننا وصلنا إلى بر الأمان؟ ربما لا يزال الوقت مبكرًا للحكم النهائي، لكنه بكل تأكيد مؤشر على تحسن ملحوظ يبعث على الارتياح.
ولكي نفهم الصورة بشكل أعمق، لا بد أن نلقي نظرة على ما يسمى “التضخم الأساسي”. هذا المؤشر، الذي يستبعد التغيرات الحادة والمفاجئة في أسعار السلع الأكثر تقلبًا مثل الطاقة وبعض المنتجات الغذائية الموسمية، يعتبر مقياسًا أكثر دقة للاتجاه العام للأسعار. وهنا تكمن المفاجأة الإيجابية الأخرى: فقد سجل مستوى التضخم الأساسي ارتفاعًا بنسبة 0.7% على أساس سنوي، وهو أدنى معدل يتم تسجيله منذ مارس 2021. تخيلوا! هذا ليس مجرد رقم عابر، بل هو نبض الاقتصاد الحقيقي، المؤشر الذي يُفصح عن الاتجاه العام دون أن تتأثر قراءته بالتقلبات الموسمية أو العرضية. من الآخر كده، المؤشر اللي بيقولنا السكة ماشية إزاي بيقول مفيش قلق.
إن رحلة التضخم في المغرب شهدت منعطفات حادة خلال السنوات القليلة الماضية. من منا لا يتذكر الصعوبات التي واجهناها في عامي 2022 و2023، حينما بلغ متوسط التضخم مستويات غير مسبوقة، وصل إلى 6.6% في عام 2022 و6.1% في عام 2023؟ كانت تلك فترة عصيبة، الناس كانت خلاص زهقت من كتر الغلاء، ومعيشة الناس تأثرت بشكل كبير. لكن يبدو أن الرياح قد بدأت تتغير. فقد شهدت وتيرة التضخم في المملكة تباطؤًا مستمرًا منذ بداية فبراير الماضي، لتهبط إلى أقل من 2%. والأكثر إثارة للانتباه أن متوسط التضخم السنوي العام الماضي (أي خلال الاثني عشر شهرًا الماضية) بلغ 0.9%، وهو تحول كبير يعكس الجهود المبذولة للسيطرة على الأسعار.
في مواجهة هذه التقلبات الاقتصادية، لم يقف بنك المغرب المركزي مكتوف الأيدي. فقد تحركت المؤسسة المالية الرئيسية في البلاد بحكمة وتأنٍ لدعم استقرار الأسعار. فبعد أن ارتفع التضخم بشكل مقلق، لجأ البنك المركزي إلى سياسة التشديد النقدي. ومع تباطؤ التضخم بشكل واضح، بدأ البنك في اتخاذ خطوات لتهدئة الأوضاع. ففي مارس الماضي، أقدم البنك المركزي على خفض سعر الفائدة الرئيسي بمقدار 25 نقطة أساس، وذلك للمرة الثالثة على التوالي، ليصل بذلك إلى 2.25%. يعني، تخيل الموضوع عامل زي سواقة العربية بالظبط؛ لما السرعة كانت عالية، البنك المركزي داس فرامل (رفع الفايدة)، ولما السرعة بدأت تهدي، بدأ يرفع رجله من على الفرامل ويدي بنزين خفيف (يخفض الفايدة) عشان العربية تمشي بسلاسة.
هذه القرارات لا تُتخذ بشكل عشوائي، بل هي نتيجة لدراسة متأنية للبيانات الاقتصادية وتوقعات السوق. وفي آخر اجتماع للبنك المركزي في يونيو، قرر الإبقاء على سعر الفائدة دون تغيير، ربما لتقييم تأثير التخفيضات السابقة وللتأكد من استدامة التباطؤ في التضخم. ومع اجتماع البنك المركزي المقرر له غدًا الثلاثاء لاتخاذ قرار جديد بشأن سعر الفائدة، تُجمع معظم استطلاعات الرأي والتوقعات على تثبيت الفائدة مرة أخرى. يعني الكل بيقول تثبيت، وده بيدل على نوع من الاستقرار في الرؤية الاقتصادية.
وماذا عن المستقبل؟ هل يمكننا أن نتطلع إلى أيام أكثر استقرارًا من الناحية الاقتصادية؟ بحسب أحدث توقعات بنك المغرب الصادرة في يونيو الماضي، من المتوقع أن يسجل التضخم بنهاية العام معدلًا قريبًا من 1%. وإذا سارت الأمور كما هو مخطط لها، فإننا قد نشهد ارتفاعًا طفيفًا العام المقبل ليبلغ 1.8%. هذه الأرقام، إن تحققت، تمثل نقلة نوعية مقارنة بالسنوات العجاف التي عشناها، وتبشر ببيئة اقتصادية أكثر استقرارًا.
في الختام، ما الذي يعنيه كل هذا بالنسبة لنا كأفراد ومستهلكين؟ عندما يتباطأ التضخم وتستقر الأسعار، يصبح بإمكاننا التخطيط لميزانياتنا بثقة أكبر، وتصبح قدرتنا الشرائية محمية بشكل أفضل. لا يعني ذلك أننا لن نشهد أي ارتفاعات في الأسعار على الإطلاق، لكن الارتفاعات ستكون معقولة ومتوقعة، وليست تلك القفزات المفاجئة التي كانت تسبب لنا القلق. إنها إشارة إلى أن الجهود المبذولة على الصعيد النقدي بدأت تؤتي ثمارها، وأن الاقتصاد المغربي يسير في مسار التعافي نحو التوازن المنشود بين النمو الاقتصادي والحفاظ على استقرار الأسعار. هل سيستمر هذا المسار الإيجابي؟ الأيام القادمة ستحمل الإجابة، ولكن المؤشرات الحالية تدعو للتفاؤل الحذر.