في عالمٍ تتسارع فيه الأحداث وتتوالى فيه الأنباء الاقتصادية والجيوسياسية بوتيرة غير مسبوقة، يبقى هناك ركنٌ آمنٌ يلجأ إليه الكثيرون حين تهب عواصف القلق: الذهب. وها هو المعدن الأصفر الثمين، في يوم الأربعاء الموافق 24 سبتمبر 2025، يؤكد مجدداً مكانته كملاذٍ استثماري بامتياز، مسجلاً قفزات تاريخية لم يسبق لها مثيل، سواء على الصعيد العالمي أو داخل حدودنا المحلية في مصر. السؤال هنا: إيه الحكاية بالظبط؟ وإيه اللي بيحصل؟
للوهلة الأولى، قد يبدو الأمر مجرد ارتفاع اعتيادي في الأسعار، لكن نظرة فاحصة تكشف عن طبقات أعمق من الأسباب التي تدفع هذا الارتفاع. عالمياً، نحن نعيش فترة من تصاعد التوترات الجيوسياسية، وهي عوامل تدفع المستثمرين بشكل غريزي نحو الأصول التي يُنظر إليها على أنها الأكثر أماناً وحفظاً للقيمة. فالقلق من المجهول، سواء كان صراعات إقليمية أو تقلبات سياسية كبرى، يجعل الذهب بريقاً لا يُقاوم في عيون الباحثين عن الاستقرار.
لكن الأمر لا يقتصر على الصراعات فقط. هناك عامل اقتصادي آخر له وزنه وثقله، ألا وهو سياسات البنوك المركزية، وتحديداً الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. الأسواق العالمية تترقب وتتوقع خفضاً إضافياً في أسعار الفائدة خلال شهري أكتوبر وديسمبر، وذلك بعد أن أقدم الفيدرالي بالفعل على تخفيضٍ سابق بمقدار 25 نقطة أساس في وقت سابق من الشهر الجاري. وهذه التوقعات، بطبيعة الحال، تُعد بمثابة وقود إضافي يدفع أسعار الذهب نحو الصعود، لأن خفض الفائدة يعني تراجع عائدات السندات والأصول الأخرى، مما يجعل الذهب، الذي لا يقدم عائداً في حد ذاته، أكثر جاذبية نسبياً.
ولننظر إلى الأرقام التي تحكي جزءاً من القصة العالمية: سعر الذهب الفوري لم يكتفِ بالارتفاع فحسب، بل حقق إنجازاً مذهلاً بوصوله إلى أعلى مستوى له على الإطلاق. فبعد أن بلغ 3,790.82 دولاراً للأوقية في وقت مبكر من جلسة التداول، استقر في نهاية المطاف عند 3,777.80 دولاراً، مسجلاً بذلك زيادة قدرها 0.8%. أما بالنسبة للعقود الآجلة للذهب تسليم ديسمبر، فقد سجلت هي الأخرى قفزة ملحوظة بنسبة 1.1%، لتُغلق عند 3,815.70 دولاراً للأوقية. هذه الأرقام ليست مجرد بيانات جافة، بل هي مؤشرات قوية على ثقة المستثمرين المتزايدة في الذهب كمخزن للقيمة.
وعلى الصعيد المحلي، في مصر، ليست الصورة مختلفة كثيراً. فالأسعار العالمية تؤثر بشكل مباشر على السوق المصري، وتجعل المعدن الأصفر يواصل رحلة صعوده. وقد أعلنت شعبة الذهب والمجوهرات عن مستويات قياسية للأسعار خلال تداولات يوم الأربعاء 24 سبتمبر، والتي تعكس هذا التوجه التصاعدي بوضوح. يعني، اللي كان معاه ذهب بقى مبسوط، واللي كان عايز يشتري يمكن يكون بيعيد حساباته.
ووفقاً للبيانات الصادرة، سجل سعر جرام الذهب عيار 24، وهو العيار الأعلى نقاءً، قيمة 5737 جنيهاً مصرياً. أما عيار 21، وهو الأكثر تداولاً وشعبية بين المصريين، فقد وصل إلى 5020 جنيهاً للجرام الواحد، مع إضافة مصنعية تتراوح بين 100 و150 جنيهاً لكل جرام. ولم يتبقَ عيار 18 بمنأى عن هذا الصعود، إذ بلغ سعره 4302 جنيه للجرام. وحتى الجنيه الذهب، ذلك الخيار المفضل للكثيرين من المدخرين، سجل رقماً قياسياً جديداً عند 40160 جنيهاً مصرياً. أرقام دي، بصراحة، تخلي الواحد يقف شوية ويفكر في قيمة مدخراته وإزاي يحميها.
لفهم هذا السلوك السوقي بشكل أعمق، نستمع إلى آراء الخبراء. يرى بوب هابيركورن، استراتيجي الأسواق في شركة RJO Futures، أن الخطاب الأخير لرئيس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، لم يتضمن أي جديد يغير المسار التصاعدي الحالي لسوق الذهب. بمعنى آخر، الأسواق كانت قد استوعبت بالفعل هذه المعلومات وتوقعات خفض الفائدة، وبالتالي لم تشهد أي مفاجآت تدفعها للتراجع. الأسواق، وكأنها تتوقع المستقبل، تواصل البناء على هذه التوقعات بخفض إضافي في أسعار الفائدة خلال الشهور القادمة.
ومن جانب آخر، ألقى مصرف كومرتس بنك الضوء على زاوية أخرى مهمة لهذا الارتفاع. فقد أشار في مذكرة بحثية إلى أن الطلب القوي من المستثمرين عبر صناديق المؤشرات المدعومة بالذهب (ETFs) هو أحد الدوافع الرئيسية لارتفاع الأسعار. هذا الطلب مدفوع بعدة عوامل متضافرة: توقعات خفض الفائدة، القلق المتزايد من استقلالية الفيدرالي الأمريكي (وهو عامل نفسي مهم)، بالإضافة إلى التطورات الجيوسياسية العالمية التي لا تتوقف عن إلقاء بظلالها على المشهد الاقتصادي.
إذن، نحن أمام ظاهرة مركبة ومتشابكة الأسباب، تتجاوز مجرد العرض والطلب التقليديين. الذهب ليس مجرد معدنٍ براق يُستخدم في صناعة الحلي، بل هو مرآة تعكس حالة القلق وعدم اليقين التي تسود العالم. هو مؤشر حي على رغبة المستثمرين، صغاراً وكباراً، في البحث عن ملاذ آمن يحفظ قيمة أموالهم في ظل تقلبات لا تتوقف.
فهل تستمر هذه الموجة الصعودية؟ وهل يصبح الذهب فعلاً “المال الوحيد المتبقي” كما يصفه البعض؟ الأيام القادمة وحدها هي الكفيلة بالإجابة. لكن ما هو مؤكد أن الذهب، في خضم هذه التحولات الاقتصادية والسياسية العميقة، سيبقى شاهداً صامتاً، لكنه بليغ، على سعي البشر الدائم للأمان والثبات في عالمٍ لا يعرف الثبات إلا في تغيره المستمر. وقصته مع الاقتصادات، ومع الأفراد، حتماً لن تنتهي هنا.