حسن محمود
في عالمٍ تتسارع فيه الأحداث وتتغير الموازين الاقتصادية بين عشية وضحاها، يظلّ للذهب بريقه الخاص، فهو ليس مجرد معدن ثمين تتباهى به النساء في أفراحهن، بل هو ملاذ آمن، ومخبأ للأمان في زمن الاضطرابات. فهل تخيلت يومًا أن جرام الذهب عيار 21 سيتجاوز حاجز الـ5 آلاف جنيه مصري؟ هذا ما حدث بالفعل، أو لنقل ما بدأ يحدث مع مستهل تعاملات يوم الإثنين، الثاني والعشرين من سبتمبر 2025، لتشهد الأسواق المصرية قفزة غير مسبوقة في سعر المعدن الأصفر، قفزة أثارت تساؤلات كثيرة عن الأسباب والآفاق المستقبلية.
نار الذهب: قفزات متتالية تتخطى التوقعات
بدأ اليوم، الاثنين، على وقع ارتفاع جديد في أسعار الذهب، بمقدار 35 جنيهًا مصريًا للجرام الواحد، ليصعد عيار 21، الأكثر رواجًا في السوق المصري، فوق عتبة الـ5 آلاف جنيه، وصولًا إلى 5015 جنيهًا تحديدًا. لم يكن هذا الارتفاع وليد اللحظة؛ فالمعدن الأصفر يستكمل مسلسل الصعود الذي بدأ قبل أيام، ليحصد المكاسب للجلسة الخامسة على التوالي، مؤكدًا بذلك اتجاهًا تصاعديًا يدعو للتأمل.
تخيل يا صديقي، أن جرام الذهب عيار 24 سجل 5731 جنيهًا، وعيار 18 وصل إلى 4298 جنيهًا. أما الجنيه الذهب، الذي يعادل 8 جرامات من عيار 21، فقد لامس 40120 جنيهًا. أرقامٌ مهولة، أليس كذلك؟ وهذا كله قبل إضافة “المصنعية” والضرائب، اللي هي في الأساس بتختلف من محل صاغة للتاني، وممكن توصل في عيار 21 لنسبة تتراوح بين 6% و14% من سعر الجرام. يعني نقدر نقول إن كل محل وليه تسعيرته الخاصة، وعشان كده الأسعار اللي بنعلنها دي بتبقى مؤشر، مش السعر النهائي اللي بتدفع في المحل.
عوامل متشابكة: الدولار والعالم والاحتياطي الفيدرالي
طيب إيه اللي بيحصل بالظبط؟ ليه الذهب بيعلى بالصورة دي؟ الحقيقة إن القصة ليها شقين، واحد عالمي وواحد محلي، وكل واحد فيهم بيشد الحبل ناحية ارتفاع الأسعار.
على الصعيد العالمي، الذهب بيعيش فترة تاريخية، مسجلًا أعلى مستوياته على الإطلاق. ليه؟ الموضوع باختصار مرتبط بالاحتياطي الفيدرالي الأميركي، اللي هو البنك المركزي بتاع أميركا. المستثمرون هناك عيونهم كلها على تصريحات مسؤوليه وبيانات التضخم اللي هتصدر الأسبوع ده، وبالذات المؤشر المفضل للبنك المركزي لقياس التضخم، وهو مؤشر أسعار الإنفاق الاستهلاكي الشخصي الأساسي الأميركي، اللي هيطلع يوم الجمعة. ده غير طبعًا إن رئيس البنك، جيروم باول، و11 مسؤول تانيين هيتكلموا الأسبوع ده، وكل كلمة منهم بتبقى مؤشر للي جاي.
ولسه من أسبوع واحد، البنك المركزي الأميركي خفّض أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس، وفتح الباب لإمكانية تخفيضات إضافية في أكتوبر وديسمبر بنسبة 93% و81% على التوالي. وعشان كده يا سيدي، كل ما الفايدة تقل، الذهب بيعلى، لأنه بيبقى البديل الجذاب للمستثمرين. كأنه بيقول لهم: “لو فلوسكم مش هتعمل عائد كبير في البنوك، تعالوا لي أنا أحافظ لكم عليها ويمكن أزودها كمان!” هذا بالإضافة إلى حالة عدم اليقين الجيوسياسي والاقتصادي الأوسع نطاقًا، وعمليات الشراء المكثفة من جانب البنوك المركزية حول العالم، كل ده بيصب في مصلحة الذهب كملاذ آمن. أسعار الأوقية العالمية قفزت بأكثر من 29 دولارًا في اليوم الواحد، لتصل إلى 3716.32 دولارًا، وحتى العقود الآجلة لشهر ديسمبر 2025 شهدت ارتفاعًا ملحوظًا.
أما على الصعيد المحلي، فالوضع معقد أكثر. هنا في مصر، مش بس بنستورد الدهب وبيجيلنا بسعره العالمي، لأ ده كمان سعر صرف الجنيه المصري قدام الدولار عمال يتراجع. الدولار وصل لـ48.29 جنيه في البنوك الرسمية، وهو رقم لم يشهده الجنيه من قبل. يعني الذهب يا جماعة بيكسب من ناحيتين: سعره العالمي بيعلى، وقيمته المحلية بتزيد كمان عشان الجنيه بيضعف قصاد العملة الخضرا. وكأن الذهب هنا بيعكس الوضع الاقتصادي العام، وبيقول لنا بصوت عالي إن القوة الشرائية للجنيه بتقل.
ماذا يعني هذا للمواطن المصري؟
الارتفاع المستمر في أسعار الذهب يضع الكثيرين في حيرة. فمن ناحية، من يمتلك الذهب يشعر بالاطمئنان، فمدخراته تتزايد قيمتها يومًا بعد يوم. ومن ناحية أخرى، من يخطط لشراء الذهب، سواء للزواج أو الاستثمار، يجد نفسه أمام أرقام قياسية تجعل الحلم بعيد المنال. ماذا سيفعل الشباب المقبل على الزواج؟ هل بات شراء الشبكة ترفًا لا يقوى عليه سوى القليل؟
الذهب لطالما كان جزءًا لا يتجزأ من الثقافة المصرية، ليس فقط كقيمة استثمارية، بل كرمز اجتماعي وعاطفي. هذا الارتفاع المتواصل يعيدنا للتساؤل: هل سيظل الذهب هو الملاذ الآمن والمدخر المفضل، أم أن أسعاره المرتفعة قد تدفع الناس للبحث عن بدائل أخرى لحفظ قيمة أموالهم؟
في النهاية، يبدو أن بريق الذهب لن يخفت قريبًا، طالما استمرت حالة عدم اليقين الاقتصادي العالمي، وتواصلت قرارات التيسير النقدي من البنوك المركزية الكبرى، وبقي الدولار يتصاعد أمام الجنيه المصري. الذهب هنا ليس مجرد سلعة، بل هو مرآة تعكس أحوال الأسواق والاقتصادات، وربما قلوب وعقول الناس الذين يبحثون عن الأمان في عالم متغير. فهل سنشهد المزيد من القفزات في الأيام المقبلة؟ الأيام وحدها كفيلة بالإجابة.
