في عالمٍ باتت فيه التقنية تتداخل مع أدق تفاصيل حياتنا، وتتحكم أحياناً في مصير اقتصادات بأكملها، يأتي خبرٌ صادم ليلقي بظلاله على ساحة عمالقة التكنولوجيا، ويذكرنا بأن الابتكار، مهما بلغ من روعة، ليس بمنأى عن رياح السياسة والتنافس الجيوسياسي. إنها قصة جديدة تُروى في فصول حرب تكنولوجية مستمرة، أبطالها شركات عملاقة وحكومات دول عظمى، وضحاياها في النهاية قد يكونون المستهلكين حول العالم.
هذا الأربعاء، لم يكن يوماً عادياً لشركة إنفيديا (Nvidia)، عملاق صناعة الرقائق الأمريكية. فبينما كان المستثمرون يراقبون الشاشات حول العالم، شهدت أسهم الشركة تراجعاً ملحوظاً، لتخسر ما يقرب من 3% من قيمتها. السبب؟ قرارٌ صيني جديد ومثير للجدل، فرضته بكين، يقضي بحظر استيراد واستخدام رقائق الذكاء الاصطناعي المدعومة بابتكارات إنفيديا، في خطوة فاجأت الكثيرين وأثارت تساؤلات حول مستقبل التعاون التكنولوجي الدولي. بصراحة كده، الناس بدأت تتساءل: يا ترى إيه اللي بيحصل بالظبط في الكواليس؟
القضية، في جوهرها، ليست مجرد صفقة تجارية ألغيت، بل هي حلقة جديدة في مسلسل طويل من الصراع التكنولوجي بين واشنطن وبكين، صراعٌ تُعدّ فيه الرقائق الإلكترونية المتقدمة، خاصة تلك المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، العمود الفقري للمستقبل الاقتصادي والعسكري. على مدار سنوات، اتخذت إدارات أمريكية متعاقبة إجراءات صارمة لتقييد وصول الصين إلى أحدث الابتكارات في عالم الرقائق الدقيقة، معللة ذلك بمخاوف تتعلق بالأمن القومي، خشية أن تستغل بكين هذه التقنيات في تطوير قدراتها العسكرية أو لتعزيز هيمنتها التكنولوجية العالمية. في المقابل، لم تقف بكين مكتوفة الأيدي، بل سارعت إلى حث شركاتها المحلية على الاعتماد الذاتي والابتعاد عن الموردين الأمريكيين، وهو ما شكل ضربة قاسية لشركات رائدة في هذا القطاع الحيوي كإنفيديا.
وفقاً لما نشرته صحيفة فايننشال تايمز، نقلاً عن ثلاثة مصادر وصفت بالمطلعة، فإن “إدارة الفضاء الإلكتروني في الصين”، وهي الجهة الرقابية المسؤولة، أصدرت توجيهات صريحة لعمالقة تكنولوجيين بحجم بايت دانس (المالكة لتطبيق تيك توك الشهير) وعلي بابا بوقف فوري لأي اختبارات أو طلبات شراء تخص شريحة RTX Pro 6000D من إنفيديا. تخيل معايا، شركات عملاقة زي دي كانت بالفعل بدأت تجارب وشغل مع إنفيديا ومورديها، وفجأة كل حاجة وقفت بقرار واحد! كأنك بتبني بيت وفجأة الحكومة تقولك: “لأ، مش هتكمل!”.
وفي خضم هذا التصعيد، تحدث جنسن هوانغ، الرئيس التنفيذي لإنفيديا، من لندن، معلقاً على هذه التطورات. وبنبرة تجمع بين خيبة الأمل والفهم العميق للتعقيدات السياسية، صرح قائلاً: “لا يمكننا خدمة أي سوق ما لم ترغب دولة ما في ذلك. أشعر بخيبة أمل مما أراه، لكن لديهم أجندات أكبر يتعين تسويتها بين الصين والولايات المتحدة، وأنا صبور حيال ذلك.” وأضاف، مؤكداً على استمرارية العمل قدر الإمكان: “سنواصل دعم الحكومة الصينية والشركات الصينية حسب رغبتها.” هذه الكلمات تحمل في طياتها الكثير من الرسائل، فهي وإن كانت تعبر عن ضيق، إلا أنها تشير أيضاً إلى إدراك أن الصراع أكبر من مجرد صراع تجاري بحت، وأنه يتطلب رؤية استراتيجية وصبرًا طويل الأمد.
ما يزيد الطين بلة هو أن هذا التقرير يأتي بعد أيام قليلة فقط من اتهام بكين لإنفيديا بانتهاك قانون مكافحة الاحتكار، في مؤشر واضح على تصعيد جديد في الحرب التجارية الشرسة مع واشنطن. لا ننسى أيضاً أن مسؤولين أمريكيين كانوا قد أثاروا مخاوف تتعلق بالأمن القومي خلال محادثات تجارية مع الصين في مدريد هذا الأسبوع. ما يميز الحظر الجديد، ويجعله أكثر إثارة للقلق، هو أنه أكثر صرامة بكثير من التوجيهات السابقة التي كانت تركز على شريحة H20، وهي نسخة سابقة من رقائق الذكاء الاصطناعي طورتها إنفيديا خصيصاً للسوق الصينية. يعني ببساطة، الصين بتقول: “المرة دي الموضوع جد، ومفيش مجال للحلول الوسط زي الأول.” هذا يظهر تحولاً جذرياً في نهج الصين تجاه تكنولوجيا الرقائق الأمريكية.
والمثير للانتباه أن شريحة RTX6000D، وهي أحدث رقائق الذكاء الاصطناعي الموجهة تحديداً للسوق الصينية، كانت قد شهدت طلباً فاتراً في الأيام التي سبقت الحظر. بعض كبرى شركات التكنولوجيا، وعلى رأسها تلك التي طُلب منها التوقف الآن، كانت قد أحجمت عن تقديم طلبات شراء كبيرة. هذا يشير إلى أن التوترات كانت كامنة، وأن القرار لم يأتِ من فراغ، بل كان تتويجاً لمرحلة من عدم اليقين والتردد. أما عن سوق الأسهم، فكانت ردة الفعل سريعة وواضحة: انخفض سهم إنفيديا بنسبة 2.9%، ليغلق عند 169.8 دولاراً بحلول الساعة 17:30 بتوقيت جرينتش، متأثراً بهذه التطورات غير المتوقعة.
إذاً، ما الذي تعنيه هذه التطورات للمستقبل؟ هل نحن أمام مرحلة جديدة من “فك الارتباط التكنولوجي” بين أكبر اقتصادين في العالم، قد تؤدي إلى تفتت سلاسل الإمداد العالمية وتخلق مسارات تكنولوجية متوازية لكنها متباعدة؟ وهل سيُجبر هذا الصراع المستمر شركات التكنولوجيا العالمية على الاختيار بين ولاء لأسواق معينة أو لسياسات دولية متضاربة؟ هذا الحدث ليس مجرد خسارة لإنفيديا أو تحدياً للصين، بل هو تذكير بأن مستقبل الذكاء الاصطناعي، هذه القوة التي تعد بتغيير وجه العالم وتشكيل ملامح الحضارة القادمة، أصبح رهناً بقرارات تتجاوز قاعات مجالس الإدارة لتصل إلى أروقة الدبلوماسية والسياسة الدولية. بالنسبة لنا، كمستخدمين ومستهلكين، هذا يعني أن الابتكارات التي نعتبرها حتمية قد تتأخر، أو تتخذ مسارات مختلفة تماماً، بسبب حواجز لم تكن لتخطر لنا على بال. إنها لعبة شطرنج معقدة، وكل حركة فيها لها تداعيات عالمية قد تغير قواعد اللعبة بأكملها.