هل شعرت يوماً وكأن جيبك يعيش حياة مستقلة عن سعر الدولار، لا يدرك أحياناً ما تخبئه له تقلبات السوق؟ هذا بالضبط ما يمر به كثيرون في العراق هذه الأيام، فبين أسعار ثابتة تفرضها الدولة وتراجعات أو صعود مفاجئ في الأسواق غير الرسمية، يبدو الأمر أشبه بلعبة شد الحبل بين استقرار تريده الحكومة وديناميكية يفرضها الشارع. لنغوص معاً في قلب ما حدث هذا الأسبوع، ونفهم لماذا تتراقص العملات بهذه الطريقة.
شهدت الأسواق العراقية، وبالتحديد خلال الأسبوع الأخير من سبتمبر 2025، حالة من التذبذب الملحوظ في سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الدينار العراقي. هذه التقلبات لم تكن عشوائية، بل جاءت بنمط محدد؛ انخفاضات متتالية في السوق الموازية أو ما يعرف “بالسوق السوداء”، في الوقت الذي حافظت فيه البنوك الرسمية على سعر صرف ثابت ومستقر. تخيل يا صاحبي، زي ما يكون فيه عالمين اقتصاديين ماشيين جنب بعض، واحد منظم والتاني ماشي بمزاجه!
دعونا نبدأ من قلب الحدث، العاصمة بغداد. هنا، سجل سعر بيع الدولار في السوق السوداء 1405 دينار لكل دولار، بينما بلغ سعر الشراء 1397.5 دينار. هذه الأرقام تأتي بعد انخفاض طفيف عن اليوم السابق، الأحد، حيث كان سعر البيع 1392 دينار والشراء 1385 دينار. ولم تكن أربيل، عاصمة إقليم كردستان، بعيدة عن هذا المشهد، فسجلت هي الأخرى 1400 دينار للبيع و1397 دينار للشراء، مقارنة بـ 1392 دينار للبيع و1385 دينار للشراء مساء الأحد. أما في البصرة، درة الجنوب العراقي، فقد استقرت الأسعار عند 1400 دينار للبيع و1395 دينار للشراء، بعد أن كانت مساء الأحد 1390.5 دينار للبيع و1382 دينار للشراء. هذه الأرقام ليست مجرد أرقام، دي فلوس ناس بتتحول لأكل وشرب ومستقبل، يعني الموضوع جدي بجد.
في المقابل، يقف البنك المركزي العراقي كجدار ثابت في وجه هذه الأمواج المتلاطمة. فقد حافظ على سعر صرف الدولار عند مستوى 1305 دينار لكل دولار للبيع النقدي، و1310 دينار لبيع الحوالات والاعتمادات والتسويات الدولية للبطاقات الإلكترونية. دور البنك المركزي هنا لا يقتصر على تحديد الأسعار فحسب، بل يمتد ليشمل بيع الدولار للمسافرين خارج العراق، وتكون قراراته ملزمة لكافة البنوك العاملة في البلاد. إنه بمثابة المرساة التي تحاول تثبيت السفينة في بحر هائج.
فما الذي يدور خلف الكواليس ويُحدث هذا التباين بين السوقين؟ الخبير الاقتصادي، نبيل جبار العلي، يرى أن التراجع الطفيف في سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار في نهاية الأسبوع هو أمر طبيعي، ويندرج ضمن التذبذبات المعتادة قبل إغلاق السوق الأسبوعي. ولكن القصة لا تتوقف هنا. العلي أوضح أن المنحى العام للدينار في الأسابيع الأخيرة كان نحو الارتفاع، وهو خبر جيد طبعاً. لكن ما الأسباب؟ ببساطة، ركود اقتصادي في قطاعات حيوية مثل السيارات والعقارات أدى إلى تراجع الطلب على الدولار. كذلك، انخفضت الاستيرادات من إيران، وهي دولة تعتمد على الدينار العراقي في بعض تعاملاتها. والأهم، زيادة دمج التجار ضمن النظام المصرفي وتحويلاتهم الرسمية، مما قلل من اعتمادهم على السوق الموازية.
لكن الأمر أعمق من ذلك. هناك عوامل مباشرة تؤثر في سعر الصرف، منها مزادات بيع العملة وحجم المبيعات اليومية التي يجريها البنك المركزي، بالإضافة إلى إجراءاته في معالجة التحويلات. ولا ننسى احتياجات التجار لاستيراد البضائع، خاصة من دول تواجه عقوبات اقتصادية، مما يخلق طلباً خاصاً على الدولار خارج القنوات الرسمية. وقد لا يخفى على أحد ظاهرة تهريب الدينار من قبل بعض التجار للاستفادة من فرق السعر، والمضاربات السوقية المبنية على معلومات، قد تكون مسربة، حول تغييرات محتملة في آلية التعامل بالنقد. يعني زي ما بنقول كده “كله بيحاول يستغل الفرصة”.
في محاولة لاحتواء هذه التقلبات، أطلق البنك المركزي العراقي مشروع “البطاقة الوطنية للدفع الإلكتروني” بالدينار. هذه الخطوة، التي جاءت بالتعاون مع شركة “أوليفر وايمن” العالمية، تهدف إلى تعزيز الشمول المالي وتقليل تكاليف المعاملات، بالإضافة إلى رفع كفاءة البنوك وتعزيز الشفافية. إنها خطوة ذكية لدعم الاقتصاد وتحفيز الاستثمارات، وجذب المزيد من التعاملات إلى القنوات الرسمية.
على الصعيد المالي الأوسع، يبلغ معدل الفائدة الأساسي في العراق حالياً 5.50٪. وفي الولايات المتحدة، حيث يتأثر الدولار بسياسات الاحتياطي الفيدرالي، استقر السعر عند 4.25٪ بعد تخفيض أخير بمقدار 25 نقطة أساس في 17 سبتمبر 2025، ويترقب الجميع اجتماع الاحتياطي الفيدرالي المقبل في 29 أكتوبر 2025 لمراجعة سعر الفائدة. هذه التغيرات العالمية تلقي بظلالها على أسواقنا المحلية، فالموضوع أكبر من مجرد سعر صرف محلي.
من الناحية الفنية، حافظ سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار على التداول حول نفس المستويات التي يتحرك حولها على مدار الأشهر السابقة، وذلك وفقاً للأسعار الرسمية التي يعلنها البنك المركزي عند 1.310. يبدو وكأنه محاصر بين مستويات عرضية، عند مقاومة 1310 دينار عراقي لكل دولار ودعم 1306 دينار عراقي.
في الختام، إن متابعة سعر الدولار ليست مجرد رفاهية أو فضول، بل هي ضرورة أساسية لكل مواطن وتاجر ومستثمر في العراق. فمع هذا التباين الواضح بين الأسعار الرسمية والسوق الموازي، والذي سجل اليوم حوالي 139,000 دينار لكل 100 دولار مقابل 131,000 دينار في السوق الرسمي، تظل القرارات المالية والاستثمارية بحاجة إلى دراسة متأنية ووعي كامل بالديناميكية المعقدة للسوق. هل سينجح البنك المركزي في سحب البساط من تحت أقدام السوق الموازية؟ وهل ستشعر جيوب العراقيين أخيراً بالاستقرار الذي تنشده؟ الأيام القادمة وحدها من ستكشف الإجابة، ويبقى علينا أن نتابع هذا الصراع الاقتصادي الذي لا يهدأ، وربنا يستر على الكل.