تراجعات الجنيه الاسترليني وتطلعات الصعود: هل ينجح “الباوند” في كسر الحاجز النفسي؟
هل راقبت يومًا رقصة العملات في الأسواق العالمية؟ تلك الحركة المستمرة، صعودًا وهبوطًا، كأنها تحكي قصة معقدة من التوقعات والآمال والخوف. وفي قلب هذه الرقصة، يبرز زوج الجنيه الاسترليني مقابل الدولار الأمريكي (GBP/USD)، الذي شهد خلال الأيام الماضية تقلبات مثيرة، ليثير تساؤلات حول وجهته القادمة. فبعد تراجع طفيف في مستهل تداولات الثلاثاء، انتفض الجنيه بقوة، مرسلاً إشارات واضحة على عزمه استعادة عافيته.
لم تكن هذه الاستفاقة عشوائية، بل جاءت مدعومة بعوامل فنية تمنحه ثباتًا. فقد لاحظ الخبراء، ومنهم المحلل المالي المتمرس كريستوفر لويس، أن المتوسط المتحرك لخمسين يومًا قد استقر أسفل الشمعة السعرية. وبالنسبة للمتداولين والمحللين الفنيين، لا يمثل هذا مجرد خط على الرسم البياني، بل هو بمثابة حاجز دعم تاريخي، يشير إلى ارتداد فني محتمل قد يدفع السوق نحو مستويات أعلى. يعني إيه الكلام ده؟ يعني الناس بدأت تشوف إن فيه فرصة كويسة للشراء، وإن الجنيه ممكن يطلع لفوق.
الهدف الأكبر الذي تتجه إليه الأنظار حاليًا هو مستوى 1.36. هذا الرقم ليس مجرد نقطة عابرة، بل يمثل حاجزًا نفسيًا كبيرًا وذو أهمية بالغة في عالم التداول. لماذا؟ ببساطة، لأنه لطالما كان منطقة “صداع” للجنيه الاسترليني في السابق، حيث شهدت محاولات عديدة لاختراقه لكنها باءت بالفشل. فإذا ما تمكن الجنيه من تجاوز هذا المستوى الصعب هذه المرة، فسيكون ذلك بمثابة إعلان واضح عن تحول جدي في مساره، وقد يفتح الباب أمام موجة صعودية أكثر استدامة. ولكن، هل هو مستعد لهذه المعركة؟
التحليل الفني للسوق في الوقت الراهن يبدو مستقرًا إلى حد كبير، لكنه يحمل في طياته بعض التفاصيل الدقيقة التي لا يمكن إغفالها. ففي محاولة سابقة لاختراق مستوى 1.36، تشكلت شمعة “الشهاب” (Shooting Star) الهائلة، وهي إشارة سلبية قوية في التحليل الفني، تدل على أن المشترين حاولوا دفع السعر للأعلى لكن البائعين سيطروا في النهاية، مما أدى إلى تراجع السعر.
والمثير للاهتمام هنا أن هذه الشمعة لم تتشكل بمعزل عن الأحداث الاقتصادية الكبرى. بل جاءت كرد فعل مباشر على المؤتمر الصحفي الصادر عن الاحتياطي الفيدرالي. وقتها، لم تبدُ لهجة الفيدرالي تيسيرية (dovish) كما كانت التوقعات، مما خيب آمال الأسواق التي كانت تنتظر المزيد من المرونة. بعبارة أخرى، الاحتياطي الفيدرالي هو من “قلب الترابيزة” شوية، وغير كل الحسابات. لذا، يرى كريستوفر لويس أن اختراق قمة شمعة “الشهاب” التي تشكلت يوم الأربعاء الماضي سيكون مؤشرًا صعوديًا قويًا للغاية للجنيه البريطاني، كونه سيعني أن السوق قد تجاوز صدمة تصريحات الفيدرالي وبدأ يرى مستقبلاً أكثر إشراقًا للجنيه.
على الجانب الآخر من العملة، لا يمكننا أن نغفل مستوى الدعم 1.34 في الأسفل. هذا المستوى قدم دعمًا كبيرًا في الماضي، وبالتالي فإن أي تراجع نحو هذا الرقم يتطلب مراقبة حثيثة. فكسر هذا الحاجز سيكون بمثابة تحول سلبي للغاية في مسار الجنيه، وقد يفتح الباب أمام تراجعات أعمق. ومع ذلك، يعتقد المحللون أن السوق سيستمر في رؤية سيناريوهات “الشراء عند الانخفاض” (Buy the Dip) على المدى القصير، بمعنى أن أي تراجع يُنظر إليه كفرصة للشراء قبل استئناف الصعود.
لكن هل هذا يعني أننا في مأمن من أي تحركات تصاعدية كبيرة؟ بصراحة، الإجابة ليست بالضرعة “نعم”. فالسوق يمر بفترة من التقلبات المستمرة، ولا سيما الدولار الأمريكي الذي يعيش حالة من التذبذب الدائم. ففي أوقات معينة، يُنظر إلى الدولار كملاذ آمن في أوقات عدم اليقين الاقتصادي، حيث يهرع المستثمرون إليه للحفاظ على قيمة أصولهم. وفي أوقات أخرى، يبدو أن الناس “يهربون” من الدولار نفسه، بحثًا عن فرص أفضل أو خوفًا من سياسات معينة. هذه الازدواجية في النظرة إلى الدولار تخلق بيئة غير مستقرة، وتجعل التنبؤ بحركة أي زوج عملات يتضمنه أمرًا معقدًا.
في نهاية المطاف، تعكس هذه التحركات المعقدة للجنيه الاسترليني والدولار الأمريكي، ليس فقط عوامل فنية واقتصادية، بل أيضًا الحالة النفسية للمتداولين والمستثمرين. إنها مزيج من الأرقام، الأخبار، والتوقعات التي تتفاعل لتشكل الصورة الكبرى. وبينما يظل مستوى 1.36 بمثابة الجبل الذي يسعى الجنيه لتسلقه، ومستوى 1.34 بمثابة الأرض الصلبة التي لا يجب أن يخسرها، فإن القصة الحقيقية تكمن في قدرة السوق على تجاوز الصعاب، وقراءة رسائل البنوك المركزية، والاستجابة بمرونة للتيارات الاقتصادية المتغيرة. ولعل أهم درس يمكن أن نتعلمه من هذه التقلبات هو أن الأسواق لا تتوقف عن الحركة، وأن كل يوم يحمل معه قصة جديدة وفرصة للتحليل والتوقع. فهل سيتمكن “الباوند” من كتابة فصل جديد مشرق في رحلته، أم أن التحديات ستظل أكبر من طموحاته؟ الأيام القادمة وحدها من ستكشف الإجابة.