في زمنٍ تتراقص فيه الأسواق العالمية على إيقاع التوترات التجارية والسياسات الحمائية، وتتصارع الدول الكبرى في ساحات الاقتصاد، قد يبدو أي بصيص أمل وكأنه شمعة تُضاء في عاصفة. لكن، منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، التي تُعد منارة للإرشاد الاقتصادي العالمي، أقدمت مؤخرًا على خطوة تبعث على قدرٍ من التفاؤل الحذر، على الرغم من جميع تلك الرياح العاتية.

المنظمة، ومقرها العاصمة الفرنسية باريس، أعلنت في تقريرها الدوري الصادر يوم الثلاثاء الماضي، الموافق الثالث والعشرين من سبتمبر لعام 2025، عن مراجعة طفيفة لتوقعاتها بشأن النمو الاقتصادي العالمي للعام الجاري. والمفاجأة هنا أن هذه التوقعات جاءت أعلى قليلًا مما كان متوقعًا سابقًا، في إشارة إلى أن الاقتصاد الكوكبي قد يكون أكثر مرونة وقدرة على امتصاص الصدمات الناتجة عن الرسوم الجمركية المتصاعدة مما كان يُعتقد. بس يا جماعة، ما ننساش إنها في نفس الوقت حذرت من تداعيات سلبية ممكن تحصل. يعني من الآخر، مش كل حاجة وردي.

فبعد أن كانت المنظمة تتوقع نموًا عالميًا بنسبة 2.9% في تقديراتها الصادرة في يونيو الماضي، وتحديدًا في ذروة ما سُمي بـ”حرب التعريفات الجمركية”، رفعت هذه النسبة إلى 3.2% للعام الحالي. نعم، هو ارتفاع متواضع بـ0.3 نقطة مئوية، لكنه يمثل تحولًا إيجابيًا، وإن كان النمو يتوقع أن يستقر عند 2.9% في العام التالي، 2026. وللوهلة الأولى، قد يبدو هذا الرقم قريبًا من توقعات المنظمة التي سبقت تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سدة الحكم في ديسمبر، حيث كانت قد تنبأت بنمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 3.3% لهذا العام. لكن الفارق في توقعات عام 2026 لا يزال كبيرًا، حيث يقل الرقم الحالي بـ0.4 نقطة مئوية عن ما كان متوقعًا آنذاك. هل هذا يعني أننا ندفع فاتورة قرارات الماضي؟

الولايات المتحدة الأمريكية، على وجه الخصوص، تُتوقع أن تدفع ثمن سياساتها التجارية هذا العام، فبعد أن شهدت نموًا للناتج المحلي الإجمالي بلغ 2.8% العام الماضي، تتوقع المنظمة تباطؤًا حادًا ليلامس 1.8% هذا العام، ثم يتراجع أكثر إلى 1.5% في العام المقبل. وكما أوضح كبير الاقتصاديين في المنظمة، ألفارو بيريرا، فإن السياسات المتشددة تجاه الهجرة، خاصة القيود المفروضة على العاملين في قطاع التكنولوجيا، ستكون لها انعكاسات واضحة. هو قالها بالحرف: “هناك نمو أقل في القوى العاملة، وهو ما سيكون له تأثير واضح على الناتج المحلي الإجمالي”، واعتبر الهجرة “ميزة أساسية للاقتصاد الأمريكي”. يعني ببساطة، لما تقل الأيدي العاملة، الإنتاج بيتأثر، دي بديهيات يا جماعة.

ولم تكن منطقة اليورو بمعزل عن هذه التوقعات. فبينما يُتوقع أن يرتفع النمو بشكل طفيف بنحو 0.2 نقطة مئوية ليصل إلى 1.4% في عام 2025 مقارنة بتوقعات يونيو التي بلغت 1.2%، فإنه سيشهد تراجعًا بنفس النسبة تقريبًا في عام 2026 ليبلغ 1%. وفي هذا السياق، لم يُخفِ بيريرا تحذيراته لبعض الدول، حيث شدد على أن فرنسا تحديدًا “عليها توخي الحذر البالغ في شؤونها المالية خلال السنوات المقبلة”. وأضاف ناصحًا، وكأنه يوجه رسالة مباشرة: “علينا أن نتعلم مما حدث في دول مثل إيطاليا والبرتغال وغيرهما، لقد عادت هذه الدول إلى الانضباط المالي، بينما تواصل فرنسا زيادة ديونها”. يعني كلام واضح وصريح، الفرنساويين لازم ياخدوا بالهم، اللي حصل في إيطاليا والبرتغال ممكن يتكرر لو ماخدوش احتياطاتهم.

وماذا عن أصل الحكاية، حرب التعريفات الجمركية؟ منذ توليه منصبه في يناير، فرض ترامب رسومًا جمركية إضافية على معظم شركاء الولايات المتحدة التجاريين. والنتيجة؟ ارتفع معدل الرسوم الجمركية الفعلي على الواردات الأمريكية بنسبة 19.5%، وهو أعلى مستوى له منذ عام 1933، وفقًا لبيانات المنظمة. رقم تاريخي يعكس حجم التحول في السياسة التجارية العالمية.

إذًا، ما الذي أثار هذا القدر من “التفاؤل” رغم كل هذه التحديات؟ المنظمة أشارت إلى نمو الإنتاج الصناعي في الأشهر الستة الأولى من العام الجاري، والذي فاق متوسط نموه المتوقع في عام 2024 في غالبية الاقتصادات المتقدمة. إضافة إلى ذلك، “لم تظهر تبعات زيادة الرسوم الجمركية بالكامل بعد لأن تطبيق العديد من التغييرات جرى على نحو تدريجي ولقيام الشركات في البداية بتحصيل بعض هذه الزيادات من هوامش أرباحها”. يعني زي ما تكون الشركات كانت بتمتص الصدمة الأول كده على حساب أرباحها، بس هل ده ممكن يستمر كتير؟

لكن المنظمة لم تغفل الجانب المظلم من الصورة. فقد حذرت من ظهور “علامات تباطؤ” في نمو الإنتاج منذ أغسطس الماضي، خاصة في اقتصادات كبرى مثل كوريا الجنوبية وألمانيا والبرازيل. وحول الاستهلاك، لوحظ تباطؤ ملحوظ في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو والصين. هنا يعود بيريرا ليضع الأمور في نصابها الصحيح، فيقول: “بشكل عام، عندما يكون الاقتصاد في وضع جيد للغاية، يبلغ معدل النمو حوالي 4%، وبالتالي نحن بعيدون عن ذلك”. يعني بالمصري كده، إحنا لسه بعيد أوي عن إننا نقول “الدنيا حلوة”.

ومع اقتراب رحيل ألفارو بيريرا عن المنظمة لتولي منصب محافظ بنك البرتغال المركزي، اختتم تصريحاته بتحذير آخر: “نتوقع ارتفاعًا طفيفًا في التضخم، لا سيما في الولايات المتحدة، ولكن ليس فيها فقط، على سبيل المثال من خلال ارتفاع أسعار المواد الغذائية في دول مثل اليابان وجنوب أفريقيا”.

في المحصلة النهائية، يبدو المشهد الاقتصادي العالمي وكأنه لوحة فنية تتداخل فيها الألوان الزاهية مع الظلال القاتمة. هناك مرونة وقدرة على الصمود تفوق التوقعات في بعض الجوانب، ولكن في المقابل، تلوح في الأفق تحديات جادة تبدأ من سياسات التجارة والهجرة وصولًا إلى تباطؤ الإنتاج والاستهلاك وارتفاع محتمل في التضخم. فهل يتمكن العالم من الحفاظ على هذا التوازن الدقيق، أم أن الرياح العاتية ستحول هذا التفاؤل الحذر إلى مجرد ذكرى؟ هذا هو السؤال الذي ينتظر إجابته ملايين البشر حول الكوكب، فكل قرار اقتصادي يُتخذ في العواصم الكبرى، له تأثير مباشر أو غير مباشر على جيوب الناس وحياتهم اليومية.

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.