لطالما ارتبط اسم قطر في الأذهان بثرواتها الهائلة من النفط والغاز، تلك الهدايا الطبيعية التي رسمت ملامح نهضتها الحديثة. لكن ماذا لو قلنا إن القصة اليوم أصبحت أعمق وأكثر تشعبًا؟ ماذا لو كان المحرك الحقيقي لعجلة التنمية، في هذا البلد الخليجي الطموح، لم يعد يقتصر على هذه الموارد وحدها؟ إن الأرقام الأخيرة التي صدرت عن جهاز التخطيط والإحصاء القطري ترسم لنا لوحة اقتصادية جديدة تمامًا، وتؤكد أن الدوحة تسير بخطى واثقة نحو مستقبل لا يعتمد على مصدر واحد للرزق، وهو تحول استراتيجي يحمل في طياته الكثير من الدروس.
في الربع الثاني من العام الجاري 2025، أعلن الاقتصاد القطري عن تحقيق نمو ملموس في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، وصل إلى 1.9 بالمائة. قد لا يبدو الرقم ضخمًا للوهلة الأولى، لكن عندما نضع في الاعتبار حجم الاقتصاد وقيمة هذا النمو، ندرك حجم الإنجاز. فقد ارتفعت القيمة الإجمالية للناتج المحلي إلى 181.8 مليار ريال قطري، أي ما يعادل حوالي 94.9 مليار دولار أمريكي، وذلك بالأسعار الثابتة. هذا التوسع يمثل قفزة واضحة مقارنة بـ 178.5 مليار ريال كانت مسجلة في الفترة نفسها من عام 2024. يعني، بصراحة، نمو مطرد ومستقر بيعكس حالة اقتصادية قوية.
لكن الجوهر الحقيقي للخبر لا يكمن فقط في هذا النمو الكلي، بل في التفاصيل التي تقف وراءه. هنا تبرز الأنشطة غير الهيدروكربونية كبطل حقيقي لهذه القفزة. هذه الأنشطة، التي لا تعتمد على النفط والغاز، استحوذت على حصة الأسد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، ممثلة نسبة مهيبة بلغت 65.6 بالمائة. هل تخيلت يومًا أن غالبية اقتصاد دولة خليجية عملاقة مثل قطر يأتي من خارج قطاع الطاقة التقليدي؟ هذا هو الواقع الذي تكشفه الأرقام. فقد بلغت القيمة المضافة لهذه القطاعات 119.3 مليار ريال قطري في الربع الثاني من 2025، مسجلة زيادة سنوية قدرها 3.4 بالمائة مقارنة بـ 115.4 مليار ريال في نفس الفترة من العام الماضي. وده بيبين قد إيه التوجه للتحول الاقتصادي مش مجرد كلام، لأ ده فيه شغل حقيقي على أرض الواقع.
وعندما نتعمق أكثر في مكونات هذه الأنشطة غير الهيدروكربونية، نجد قطاعات حققت طفرات نمو ملحوظة تستدعي التوقف عندها. على رأس القائمة، جاء قطاع الزراعة والغابات وصيد الأسماك بنسبة نمو بلغت 15.8 بالمائة. تخيل معي، دولة صحراوية بطبيعتها تحقق هذا الزخم في الزراعة! هذا ليس مجرد رقم، بل هو مؤشر على جهود حثيثة لتعزيز الأمن الغذائي وتنويع مصادر الإنتاج، وحاجة زي كده بصراحة بتفرح القلب.
يلي ذلك مباشرة قطاع الإقامة والخدمات الغذائية، الذي شهد نموًا بنسبة 13.4 بالمائة. وهذا النمو ليس غريبًا، خاصة بعد الاستثمار الضخم في البنية التحتية السياحية وقطاع الضيافة استعدادًا لاستضافة كأس العالم 2022، وتأثير ذلك على استقطاب السياح والفعاليات بعد البطولة. وكأن الدوحة تستكمل مسيرة الانفتاح السياحي والثقافي.
لم تتوقف القائمة عند هذا الحد، فقد أظهرت قطاعات أخرى أداءً قويًا يعكس حيوية المشهد الاقتصادي القطري. على سبيل المثال، نمت أنشطة الفنون والترفيه والاستجمام بنسبة 8.9 بالمائة، ما يدل على ازدهار الحياة الثقافية والترفيهية في البلاد، والتي تجذب الزوار والمقيمين على حد سواء. وتبعها قطاع تجارة الجملة والتجزئة بنمو قدره 8.8 بالمائة، وهو ما يعكس حيوية السوق وزيادة القدرة الشرائية والاستهلاكية. وأخيرًا، وليس آخرًا، حافظ قطاع التشييد والبناء على وتيرة نمو قوية بلغت 8.7 بالمائة، مما يشير إلى استمرار المشاريع التنموية الكبرى والبنية التحتية الطموحة التي تشهدها البلاد. يعني بصراحة، كل قطاع بيشد التاني لفوق في منظومة متكاملة.
هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات جافة؛ إنها شهادة حية على الرؤية الاستراتيجية لدولة قطر، التي تسعى جاهدة لتحقيق التنوع الاقتصادي والحد من الاعتماد الكلي على عائدات النفط والغاز. في عالم يشهد تقلبات أسعار الطاقة وعدم اليقين الجيوسياسي، يصبح بناء اقتصاد مرن ومتعدد الأوجه ضرورة ملحة لا ترفًا. وما نراه اليوم في قطر هو حصاد لسنوات من التخطيط الدقيق والاستثمار في قطاعات واعدة تحمل بذور النمو المستدام.
في الختام، ما الذي يعنيه هذا كله لنا كأفراد أو كمتابعين للمشهد الاقتصادي الإقليمي والعالمي؟ إنه يعني أن قطر لا تكتفي بالنجاح في مجال واحد، بل تسعى لخلق نموذج تنموي شامل، يوفر فرص عمل متنوعة، ويعزز الابتكار، ويحسن جودة الحياة لمواطنيها ومقيميها. الأرقام تحكي قصة نجاح، ولكن القصة الأهم هي التي تتشكل خلف هذه الأرقام: قصة دولة تبني مستقبلها على أسس صلبة من التنوع والابتكار، لتثبت أن الإبداع البشري والتخطيط السليم يمكن أن يحولا التحديات إلى فرص، وأن الاعتماد على “بترول العقول” قد يكون أهم من “بترول الأرض” على المدى الطويل. فهل ستكون هذه التجربة القطرية نموذجًا يحتذى به في المنطقة والعالم؟ الأيام القادمة وحدها كفيلة بالإجابة.