هل تخيلت يومًا أن سعر جرام الذهب عيار 21 قد يتجاوز عتبة الخمسة آلاف جنيه مصري؟ ما كان يبدو خيالًا قبل فترة قصيرة، أصبح حقيقة ملموسة اليوم الثلاثاء، في قفزة تاريخية جديدة يهيمن عليها المعدن الأصفر النفيس. هذه ليست مجرد أرقام تُعلن في نشرة اقتصادية؛ بل هي انعكاسات متداخلة لظروف عالمية ومحلية معقدة، ترسم صورة سوق مضطرب ولكنه مليء بالفرص.
دعونا نبدأ من حيث بدأت القصة: صعود الذهب لمستويات غير مسبوقة. ففي سوق مليء بالترقب، سجل جرام الذهب عيار 21، الشريان الأساسي لتداولات السوق المحلي، سعر 5100 جنيه للمرة الأولى. هذا الارتفاع الصاروخي لم يأتِ من فراغ، بل كان مدفوعًا بقفزة مماثلة للذهب العالمي، حيث تجاوز سعر الأوقية حاجز 3780 دولارًا في التعاملات الفورية، بل وصل إلى 3782 دولارًا، وهو رقم قياسي لم يُشهد له مثيل، وفقًا لبيانات وكالة بلومبرج.
لكن لماذا هذا الصعود الجنوني؟ ببساطة، الأمور تبدأ من واشنطن. مؤشر الدولار العالمي (DXY) تعرض لتراجع ملحوظ بنسبة 0.39%، ليستقر عند حوالي 97.3 نقطة أمام سلة من العملات الرئيسية. هذا التراجع ليس مجرد رقم على شاشة، بل هو دلالة واضحة على رهانات المستثمرين المتزايدة على أن البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سيقدم على خفض جديد لأسعار الفائدة قريبًا. يعني من الآخر كده، لما الفايدة الأمريكية تقل، جاذبية الدولار بتقل، والناس بتجري على الذهب كملاذ آمن.
الخبراء هنا يجمعون على أن الدوافع عالمية بالأساس. الأستاذ هاني ميلاد، رئيس شعبة الذهب والمجوهرات باتحاد الغرف التجارية، يؤكد هذا الارتباط الوثيق، موضحًا أن السوق المصري يتأثر مباشرة بحركة الأسعار الدولية. ويضيف أن خفض الفائدة الأمريكية لم يشجع المستثمرين فحسب، بل دفع بالبنوك المركزية حول العالم لزيادة مشترياتها من الذهب كأداة تحوّط استراتيجي ضد تقلبات الاقتصاد، مما عزز الطلب العالمي ورفع سعره. أما الأستاذ نادي نجيب، سكرتير عام شعبة الذهب سابقًا، فيرى أن الأسعار القياسية عالميًا قد انعكست فورًا على سوقنا المحلي المفتوح، متوقعًا استمرار الارتفاع طالما بقيت الظروف الدولية على حالها.
الأستاذ مصطفى شفيع، رئيس قسم البحوث بشركة عربية أون لاين، يربط ارتفاع الذهب عالميًا بشكل مباشر بتراجع الدولار وضعف عوائد أدوات الدين بعد قرار الاحتياطي الفيدرالي الأخير بخفض الفائدة 25 نقطة أساس، ومع توقعات بخفض جديد. هذا يدفع المستثمرين للبحث عن أمانهم في الذهب. أما محليًا، فالقصة لا تختلف كثيرًا: أسعار الذهب تتأثر أيضًا بسعر الصرف وحالة عدم اليقين الاقتصادي. شفيع يشير إلى أن خفض الفائدة محليًا وتخوف البعض من تراجع قيمة الجنيه يدفع الكثيرين لشراء الذهب للتحوط، حتى لو كانت أسعاره مرتفعة جدًا. يعني الناس عايزة تحمي فلوسها، والذهب بالنسبة لهم هو الملاذ الأخير.
ولكن، مهلاً! في الوقت الذي كان فيه الذهب يحلق عاليًا، كانت هناك مفاجأة أخرى على الصعيد المحلي: تراجع ملحوظ في سعر الدولار أمام الجنيه المصري. فمع بداية التعاملات، شهد سعر الدولار انخفاضًا في ثلاثة بنوك مصرية، بينما استقر في سبعة أخرى، ليسجل في البنك الأهلي المصري 48.16 جنيه للشراء و48.26 جنيه للبيع. أليس هذا غريبًا؟ الذهب يرتفع والدولار العالمي ينخفض، لكن الدولار المحلي ينخفض أيضًا! ما الذي يحدث بالضبط؟
الأستاذ مصطفى شفيع مرة أخرى، يوضح أن حركة الدولار محليًا تخضع لعوامل مختلفة عن السوق العالمي، وأبرزها قدرة الجهاز المصرفي على توفير العملة الأجنبية للمستثمرين، وعودة التدفقات النقدية من الخارج، بالإضافة إلى حالة الاستقرار الاقتصادي العام. الخبير المصرفي الأستاذ محمد بدرة يضيف أن تحسن الجنيه جاء مدعومًا بزيادة تحويلات المصريين من الخارج، وانتعاش قطاع السياحة، والإعلان مؤخرًا عن صفقة “مراسي ريد سي” مع شركة إعمار. كل هذه العوامل عززت الثقة في العملة المحلية وساهمت في تقليص الضغوط على الدولار. هل هذا يعني أننا نشهد بداية مرحلة جديدة للجنيه؟
الخبير المصرفي الأستاذ محمد عبد العال يرى أن القرارات التاريخية للبنك المركزي المصري في 7 مارس 2024، وعلى رأسها تحرير سعر الصرف، كانت نقطة تحول حاسمة مهدت لاستقرار الجنيه وتحسن أوضاع النقد الأجنبي، وأنهت تمامًا ظاهرة السوق الموازي، وهي سابقة لم تحدث منذ عقود. يضيف عبد العال أن هذه النتائج المذهلة تحققت رغم تحديات كبرى، بما في ذلك فقدان نحو 10 مليارات دولار من إيرادات قناة السويس، وعدم الحصول على الشريحة الخامسة من قرض صندوق النقد الدولي، فضلاً عن التداعيات الاقتصادية للحرب في غزة.
ورغم كل هذه العقبات، نجحت مصر في جذب استثمارات أجنبية غير مباشرة تجاوزت 40 مليار دولار، إلى جانب صفقات استثمارية ضخمة، أبرزها مشروع مراسي ريد سي الذي تصل استثماراته إلى 900 مليار جنيه على مدى أربع سنوات، بعوائد سنوية لا تقل عن 200 مليون دولار. كما سجلت تحويلات المصريين بالخارج رقمًا قياسيًا بلغ 36.5 مليار دولار، وارتفعت إيرادات السياحة، وتحسنت الصادرات نسبيًا رغم الظروف الصعبة. أرقام تتحدث عن نفسها، وتؤكد أن هناك جهودًا حثيثة لتحقيق التعافي.
في النهاية، هذه القفزة التاريخية للذهب ليست مجرد خبر عابر، بل هي مؤشر على ديناميكيات اقتصادية معقدة تؤثر علينا جميعًا. إنها تُبرز الذهب كملاذ آمن في عالم مضطرب، وتُسلط الضوء في الوقت نفسه على قوة الجنيه المصري المستمدة من إصلاحات اقتصادية حاسمة وتدفقات استثمارية ضخمة. ولكن يظل السؤال الأهم، كما أشار الأستاذ محمد بدرة: “كما ترتفع الأسعار فور صعود الدولار، يجب أن تنخفض مع تراجعه”. فهل نرى انعكاسًا حقيقيًا لتحسن الجنيه على أسعار السلع المستوردة التي تشكل جزءًا كبيرًا من سلتنا الشرائية اليومية؟ وهل سيشعر المواطن العادي بثمار هذا الاستقرار الاقتصادي والتحسن في العملة الوطنية؟ هذا هو ما ننتظره جميعًا، وهذا ما سيحدد مدى نجاح هذه القفزات والتحولات على المدى الطويل.