هل لك أن تتخيل مشهدًا لقطار يسير بسرعة، لكن بعض عرباته بدأت تتباطأ، وربما تتوقف؟ هذا بالضبط ما يبدو عليه الوضع في منطقة اليورو مؤخرًا. فبعد أن شهدت المنطقة “قفزة” في نشاطها التجاري خلال شهر سبتمبر، محققة أسرع وتيرة نمو منذ ستة عشر شهرًا كاملًا، جاءت التفاصيل لتكشف عن صورة ليست بالوردية تمامًا. فعلى الرغم من هذا الرقم الملفت، تراجعت الطلبات الجديدة، وهو ما يثير أسئلة جدية حول مدى استدامة هذا الانتعاش، وهل هو مجرد وميض عابر أم بداية لمسار حقيقي؟

دعنا نغوص قليلًا في الأرقام لنفهم الصورة بشكل أوضح. مؤشر مديري المشتريات (PMI) المركب لمنطقة اليورو، والذي تعده شركة “ستاندرد آند بورز غلوبال” المرموقة، صعد إلى 51.2 نقطة في سبتمبر، متجاوزًا توقعات استطلاع رويترز التي كانت عند 51.1 نقطة، ومسجلًا بذلك الشهر التاسع على التوالي من التوسع. وللتبسيط، أي رقم فوق الـ50 نقطة يعني نموًا، بينما الأقل يشير إلى انكماش. الرقم يبدو جيدًا للوهلة الأولى، أليس كذلك؟ لكن الخبراء لهم رأي آخر. سايروس دي لا روبيا، كبير الاقتصاديين في “بنك هامبورغ التجاري”، يلخص الوضع بقوله: “لا تزال منطقة اليورو تسير على مسار النمو، ولكننا بعيدون كل البعد عن رؤية أي زخم حقيقي.” كلام يخليك تفكر ألف مرة قبل ما تتهور وتفرح بالخبر السار ده!

المشكلة الحقيقية تكمن في مؤشر الطلبات الجديدة المركب، الذي تراجع إلى مستوى التعادل عند 50.0 نقطة بعد أن كان 50.3 نقطة في أغسطس. يعني إيه الكلام ده؟ يعني الناس أو الشركات بدأت تطلب منتجات وخدمات أقل، وده طبعًا مش مؤشر يطمن خالص على المدى الطويل. التوسع العام الذي شهدناه قاده بشكل رئيسي قطاع الخدمات، الذي ارتفع مؤشره إلى 51.4 نقطة، مسجلًا أعلى قراءة له في تسعة أشهر. يا سلام، القطاع ده هو اللي شال الليلة! لكن في المقابل، قطاع التصنيع، اللي هو قلب الصناعة التقليدية، فقد زخمه تمامًا، وتراجع مؤشره إلى 49.5 نقطة، يعني دخل منطقة الانكماش. كأنك بتشوف فريق كورة نص المهاجمين فيه بيلعبوا كويس والنص التاني مش موجود في الملعب أصلًا!

وبما إننا بنتكلم عن أوروبا، لازم نسلط الضوء على الاقتصادين الأكبر في المنطقة: ألمانيا وفرنسا. هنا تظهر الفروقات بشكل صارخ، وكأن كل بلد في عالم موازٍ. في ألمانيا، سجل النشاط الاقتصادي نموًا قويًا، هو الأسرع منذ مايو 2023. مؤشر مديري المشتريات المركب الألماني قفز إلى 52.4 نقطة، مدفوعًا بشكل أساسي بانتعاش قطاع الخدمات لمستويات هي الأعلى في ثمانية أشهر. يا بختهم! لكن حتى في ألمانيا، لم تكن الصورة مثالية، فقد أظهر قطاع التصنيع بعض التوتر، وتراجع مؤشره إلى 48.5 نقطة، مع تراجع الطلبات الجديدة في كلا القطاعين، مما يعكس ضعفًا في الطلب الإجمالي. دي لا روبيا يحذر هنا بأن “هناك مشكلات تلوح في الأفق في قطاع التصنيع. إذا استمر انخفاض الطلب محليًا ودوليًا، فلن يمر وقت طويل قبل أن تقلص الشركات إنتاجها أيضًا”. يعني لو الوضع استمر كده، ممكن نشوف تخفيض في الإنتاج، وده معناه إيه؟ وظائف أقل، ومشاكل أكتر. توقعات الشركات الألمانية نفسها للعام المقبل تراجعت، والقلق من تباطؤ الاقتصاد وارتفاع تكاليف التشغيل بيسيطر على المشهد.

على النقيض تمامًا، نجد فرنسا. الاقتصاد الفرنسي شهد انكماشًا بأسرع وتيرة منذ أبريل الماضي، وتراجعت قطاعات التصنيع والخدمات على حد سواء. مؤشر مديري المشتريات المركب الفرنسي انخفض إلى 48.4 نقطة، مسجلًا أدنى مستوى له في خمسة أشهر. تصور، إنكماش مستمر للشهر الثالث عشر على التوالي! الوضع هناك “مقلق” بحسب يوناس فيلدهوزن، الخبير الاقتصادي الآخر في “بنك هامبورغ التجاري”، الذي أشار إلى “ضعف حاد في النشاط الاقتصادي الفرنسي” بعد بوادر استقرار خلال أشهر الصيف. الغريب بقى، إن التوظيف في القطاع الخاص الفرنسي ارتفع بشكل طفيف للشهر الثاني على التوالي، لكن ثقة الشركات ظلت منخفضة بسبب حالة عدم اليقين السياسي. ويا للعجب، الشركات الفرنسية خفضت أسعارها للمرة الأولى منذ مايو، رغم الانخفاض الطفيف في تكاليف التشغيل، وده بيبين قد إيه المنافسة شديدة والطلب ضعيف.

وبالعودة لمنطقة اليورو ككل، ما مصير التوظيف والتضخم؟ زيادة التوظيف توقفت في سبتمبر، لتنهي ستة أشهر من خلق فرص العمل. المصنعون واصلوا خفض الوظائف، بينما تباطأ التوظيف في قطاع الخدمات إلى أدنى مستوى له في سبعة أشهر. يعني بشكل أساسي، الشركات بقت حذرة في التعيينات بسبب قلة الطلبات الجديدة. أما عن التضخم، فالأخبار هنا أحسن شوية؛ الضغوط التضخمية انحسرت، وتباطأ ارتفاع تكاليف المدخلات وأسعار الإنتاج. تكاليف مستلزمات التصنيع سجلت أول انخفاض لها في ثلاثة أشهر، وشركات الخدمات شهدت ارتفاع الأسعار بأبطأ معدل منذ مايو. ده خبر مفرح، صح؟ البنك المركزي الأوروبي نفسه حافظ على أسعار الفائدة دون تغيير في وقت سابق من الشهر، واستطلاع آخر أشار إلى أن البنك قد يكتفي بعدم خفض الفائدة. لكن دي لا روبيا يذكر مرة أخرى أن “تضخم التكاليف في قطاع الخدمات الذي يراقبه البنك المركزي الأوروبي من كثب بشكل طفيف، ولكنه لا يزال مرتفعًا بشكل غير معتاد في ظل الظروف الاقتصادية الهشة.”

في النهاية، ما الذي تخبرنا به هذه الأرقام المتضاربة؟ إنها ترسم صورة لاقتصاد عالمي يعاني من حالة من عدم اليقين والهشاشة. فبينما يلوح النمو في الأفق أحيانًا، فإن أساساته لا تزال ضعيفة، خصوصًا مع تراجع الطلبات الجديدة واستمرار الصراعات بين قطاعات الاقتصاد المختلفة وتباين الأداء بين الدول. هل هذا النمو مجرد سراب أم بداية طريق وعر نحو استقرار حقيقي؟ السؤال لا يزال مفتوحًا، والإجابة ستعتمد على قدرة القادة الاقتصاديين على تجاوز هذه التحديات المعقدة، فالمشهد الاقتصادي أشبه ما يكون بأرجوحة، تتأرجح بين الأمل والقلق، وعلينا أن نراقبها جيدًا لنعرف إلى أي اتجاه ستستقر في النهاية.

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.