ألمانيا: هل تستعيد “قاطرة أوروبا” بريقها بثورة إصلاحية؟

ألمانيا، التي طالما عُرفت بقوتها الاقتصادية الهائلة وتاريخها الصناعي العريق، تواجه اليوم تحديًا لم يسبق له مثيل. فبعد عقدين من الزمن كانت فيه المحرك الذي لا يتوقف لاقتصاد القارة، يبدو أن “قاطرة أوروبا” بدأت تفقد بعضًا من عزمها، لتجد نفسها في مفترق طرق اقتصادي. فهل تستطيع برلين، بجرأة غير معهودة، أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، أو بالأحرى، تدفعها إلى الأمام بوقود جديد من الإصلاحات؟

هذا هو السؤال الذي يشغل بال الكثيرين، ليس في ألمانيا وحدها، بل في أوروبا والعالم أجمع. فبعد عامين متتاليين من الانكماش الاقتصادي – ظاهرة فريدة من نوعها بين دول مجموعة السبع الكبرى (G7) – لم يعد بالإمكان تجاهل صوت التحدي. وهنا يبرز المستشار الألماني فريدريش ميرتس على المسرح، معلنًا التزامه الراسخ باستعادة القدرة التنافسية لأكبر اقتصاد أوروبي. لم يعد الأمر يتعلق بالإصلاحات الجزئية، بل بثورة شاملة، وافق عليها مجلس الوزراء الألماني للتو، تهدف إلى إزالة قيود البيروقراطية الثقيلة وتسريع العمليات التجارية باستخدام أدوات العصر: الرقمنة والذكاء الاصطناعي.

“ندرك جيدًا التحديات التي تواجه الاقتصاد الألماني اليوم، ولكن طموحاتنا لا تزال تتجه نحو العودة إلى القمة،” بهذه الكلمات الواثقة، تحدث ميرتس في مؤتمر صحفي بقصر “بورسج” في ضواحي برلين، وكأنه يرد على المشككين ويشعل شعلة الأمل. والواقع أن إدارة ميرتس لم تكتف بالوعود، بل خطت خطوات جريئة بالفعل، وغيرت مسار السياسة المالية الألمانية التقليدية التي اشتهرت بصرامتها. فقد أطلقت حزمة ضخمة للبنية التحتية والدفاع بقيمة نصف تريليون يورو، في محاولة واضحة لتحفيز النمو ودفع عجلة الاقتصاد الذي ظل متوقفًا لبعض الوقت.

هل تتساءل عن السبب الرئيسي لهذه “الوعكة الاقتصادية”؟ دراسة أجراها معهد Ifo الاقتصادي في نوفمبر 2024 كشفت عن المتهم الأول: البيروقراطية المفرطة. فالبطء الإداري والتعقيدات غير الضرورية تكبد ألمانيا خسائر اقتصادية فادحة تقدر بنحو 150 مليار يورو سنويًا. يعني ببساطة كده، إحنا بنتكلم عن مبلغ مهول، لو استثمرناه صح، ممكن يغير وش البلد دي تمامًا!

لكن ما الذي تتضمنه أجندة التحديث هذه بالضبط؟ وما هي المشاريع التي يراهن عليها ميرتس وفريقه؟ الأجندة التي أُعلن عنها يوم الأربعاء الموافق الأول من أكتوبر، لا تقتصر على الأرقام الكبيرة والخطط الاستراتيجية فقط، بل تتخللها 23 مشروعًا رئيسيًا صُممت لتحسين الحياة اليومية للمواطنين ورجال الأعمال على حد سواء. تخيل معي: خدمة تسجيل المركبات أصبحت مركزية وعبر الإنترنت، مما ينهي طوابير الانتظار الطويلة. ولمن يحلم ببدء مشروعه الخاص، هناك منصة لإنشاء الشركات في غضون 24 ساعة فقط! إيه رأيكم في السرعة دي؟

والتكنولوجيا ليست غائبة عن هذه الإصلاحات، بل هي في صميمها. فاستخدام الذكاء الاصطناعي سيمتد إلى الإجراءات القضائية، مما يعد بتسريع البت في القضايا، وحتى في التحقق من التأشيرات. هذا ليس خيالًا علميًا، بل واقع يتشكل الآن. ولأن ألمانيا بحاجة ماسة إلى الأيدي العاملة الماهرة، خاصة في القطاع الطبي، تضمنت الأجندة إجراءً أسرع للاعتراف بمهارات الطواقم الطبية الأجنبية. كما سيتم إنشاء هيئة رقمية متكاملة لتسهيل هجرة ودمج العمال المهرة، لتضمن أن الكفاءات العالمية تجد طريقها بسهولة إلى السوق الألماني.

“سنقدم هذا الاقتراح التشريعي الملموس للغاية إلى البرلمان الألماني،” هكذا أكد ميرتس، مشددًا على جدية الخطوات المتخذة. ووفقًا لجدول الأعمال الطموح، فإن خفض البيروقراطية بنسبة 25% فقط خلال السنوات القليلة المقبلة، لديه القدرة على توفير ما يصل إلى 16 مليار يورو. مبلغ كبير بلا شك، سيشكل دفعة قوية للاقتصاد.

ولم تتوقف خطط المستشار عند هذا الحد، فقد أشار ميرتس أيضًا إلى أن مجلس الوزراء سيقدم عددًا من مشاريع القوانين الإضافية خلال هذا الشهر، على أمل أن تحظى بموافقة مجلس الشيوخ في البرلمان قبل الجلسة الأخيرة لهذا العام في ديسمبر. هذا يدل على إصرار وسرعة في التنفيذ، وكأنهم في سباق مع الزمن.

أخيرًا، ورغم التركيز على الإصلاحات الحالية، فإن النظرة المستقبلية لم تغب عن الأنظار. فقد وافق مجلس الوزراء على خطة طموحة لبناء مفاعل نووي للاندماج في ألمانيا، بتخصيص تمويل قدره 1.7 مليار يورو. وهذا الاستثمار الضخم في تكنولوجيا الطاقة المستقبلية يؤكد التزام ألمانيا بالابتكار والاستدامة على المدى الطويل. كما أعطت الحكومة الضوء الأخضر لمشروع قانون يهدف إلى تسريع تطوير البنية التحتية للهيدروجين، وذلك بتخفيف الحواجز البيروقراطية التي قد تعرقل هذا القطاع الواعد.

إن ما تشهده ألمانيا اليوم ليس مجرد تغييرات إدارية، بل هو محاولة لإعادة تعريف نفسها اقتصاديًا في عالم متغير. هل تنجح “قاطرتها” في تجاوز هذه المرحلة الصعبة واستعادة عافيتها؟ الإجابة ستعتمد على مدى نجاح هذه الإصلاحات الجريئة في أرض الواقع، وعلى قدرة الحكومة على تحويل الوعود إلى إنجازات ملموسة. لكن الأمر المؤكد هو أن ألمانيا تدرك حجم التحدي، وأنها مستعدة لتجاوز الأساليب التقليدية من أجل مستقبل أكثر إشراقًا. ربما تكون هذه الأيام العصيبة هي ما تحتاجه القاطرة الأوروبية لتغيير مسارها نحو مستقبل أكثر إشراقًا وتنافسية، ودرسًا للعالم أجمع في فن التكيف والإصلاح.

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.