في عالمٍ لا يهدأ، حيث تتغير موازين القوى الاقتصادية باستمرار، وبينما يواجه البعض تحديات جمّة، يرى آخرون فرصاً لا تُقدر بثمن. فهل نحن أمام فصلٍ جديدٍ من فصول “هجرة الرؤوس المالية” نحو الأسواق التي تبدو، على السطح، مضطربة؟
هذا هو بالضبط ما يبدو أن شركة “أرادَ” للتطوير العقاري، العملاق الناشئ من قلب الشارقة، قد قررت فعله. بخطوة جريئة تبلغ قيمتها 2.5 مليار درهم إماراتي، أي ما يعادل 680 مليون دولار أمريكي، أعلنت الشركة عن نيتها الاستحواذ على حصة أغلبية، تصل إلى 75%، في شركة “ريغال” البريطانية للتطوير العقاري ومقرها لندن. ليست مجرد صفقة عادية، بل هي بمثابة إعلان عن طموح لا يعرف الحدود، ورغبة جامحة في غزو الأسواق المتقدمة.
بس، ليه لندن تحديداً؟ ناس كتير ممكن تسأل. الحقيقة إن شركات التطوير العقاري في الإمارات، واللي دبي والشارقة جزء أساسي منها، عندها سيولة ضخمة جداً، بعد الطفرة العقارية اللي شهدتها البلاد في الفترة اللي فاتت. فالارتفاع الهائل في أسعار العقارات والإيجارات، خاصةً في إمارة دبي، دفع بالكثيرين للبحث عن بدائل أقل تكلفة في مدن مجاورة مثل الشارقة، الأمر الذي عزز بدوره من نشاط المطورين هناك. فلما يكون عندك سيولة زي دي، مش طبيعي إنك تفضل قاعد تتفرج بس، صح؟ لازم تتحرك وتستثمرها. والمستثمر الذكي دايماً بيدور على طرق ينوّع بيها استثماراته ويحميها من أي تقلبات محتملة في السوق المحلي.
في المقابل، المشهد العقاري في لندن يبدو مختلفاً تماماً، ويمكن القول إنه يواجه بعض الرياح المعاكسة. فالبيانات تشير إلى أن سوق العقارات هناك يئن تحت وطأة تحديات جمة. فمثلاً، أكبر شركة لبناء المنازل في بريطانيا، “بارات ريدرو”، لم تتمكن مبيعاتها السنوية من تحقيق التوقعات المسبقة، وذلك في ظل تراجع واضح في الطلب. شركات التطوير في العاصمة البريطانية تعاني أيضاً من ارتفاع تكاليف الاقتراض والعقبات التنظيمية المعقدة، ما يضغط على هوامش أرباحها ويحد من قدرتها على التوسع. ولعل الرقم الأكثر إثارة للقلق هو ما كشفته شركة “موليور لندن” للأبحاث، حيث توقعت بيع أقل من 4000 منزل جديد في لندن خلال النصف الأول من عام 2025 – وهو الأدنى منذ عام 2010. هل هذه الأرقام تخيف المستثمرين؟ أم أنها تفتح شهية الصقور التي تبحث عن صفقات في أوقات الشدة؟
ولكن، من هي “ريغال” هذه التي جذبت أنظار “أرادَ”؟ إنها شركة ذات باع طويل في سوق التطوير العقاري البريطاني، وتشتهر بتخصصها في بناء مجمعات الشقق السكنية الفاخرة، وسكن الطلاب، ومجتمعات رعاية كبار السن في لندن. ولم تكتفِ بذلك، بل توسعت لتشمل تطوير مساحات عمل ومساحات من العقارات التجارية، ما يعكس تنوع محفظتها وقدرتها على تلبية احتياجات قطاعات مختلفة. ولنتخيل معاً، من بين مشاريعها البارزة، نجد مجمع “ذا هايدون” السكني الفاخر في قلب مدينة لندن، و”فولتون آند فيفث”، وهو حي يضم 800 منزل يقع في شمال لندن على مقربة من ملعب “ويمبلي” الشهير. يعني باختصار، شركة ليها اسمها وشغلها واضح ومشاريعها معروفة.
الصفقة، بكل أبعادها، تُعد نقلة نوعية لـ “أرادَ”. فمع الاستحواذ على “ريغال”، التي تضم محفظتها حالياً 10 آلاف وحدة قيد التطوير موزعة على 11 مشروعاً في المملكة المتحدة، من المتوقع أن يرتفع عدد مشاريع “أرادَ” قيد التطوير ثلاثة أضعاف خلال السنوات الثلاث المقبلة. وهذا ليس كل شيء، فمن المخطط أن يتم تغيير اسم الوحدة البريطانية لتصبح “أرادَ لندن”، في إشارة واضحة لرسوخ الشركة وعمق التزامها بالسوق الإنجليزي. ألا يوحي هذا بوجود خطة استراتيجية محكمة لاقتناص فرص النمو حتى في أصعب الظروف؟
هذه الخطوة الكبيرة من “أرادَ” ليست حدثاً فريداً من نوعه في عالم الاستثمار الإماراتي. فشركات التطوير العقاري في الدولة، بما فيها “أرادَ” نفسها التي سبق لها الاستثمار في أستراليا وشراء أراضٍ لبناء 2500 منزل هناك في ظل نقص حاد في المعروض من المنازل الجديدة، تسعى جاهدة لتنويع محفظتها الجغرافية وتقليل الاعتماد على سوق واحد. وقبلها بأشهر قليلة، وبالتحديد في يناير الماضي، كانت شركة “مدن القابضة” ومقرها أبوظبي، قد استحوذت على حصة 50% في ناطحة سحاب بلندن، ستكون مقراً لشركتي “سيتادل” و”سيتادل سيكوريتيز” التابعتين لكين غريفين بعد اكتمالها. ما بنشوفه هنا، باختصار، هو حركة استثمارية قوية جداً من الإمارات، مش مجرد مغامرة فردية، بل هو توجه استراتيجي مدروس.
ماذا يعني كل هذا بالنسبة للمستثمرين في المنطقة، وللسوق العقاري العالمي؟ هل يشكل هذا التوسع الخارجي استراتيجية ذكية للتحوط ضد أي تقلبات في الأسواق المحلية المزدهرة، أم هو مجرد بحث عن فرص نمو أكبر قد لا تتوافر بنفس الوتيرة محلياً؟ بغض النظر عن الدوافع الدقيقة، فإن الرسالة واضحة: رأس المال الذكي لا يخشى الأزمات، بل يراها محطات لإعادة التموضع والنمو. وفي الوقت الذي قد يرى فيه البعض تراجعات في بعض الأسواق المتقدمة كعلامة على الخطر، يراها آخرون، خاصةً من دول لديها فائض في السيولة، كفرصة تاريخية لشراء الأصول بأسعار جذابة وتحقيق عوائد مجزية على المدى الطويل. فهل نحن على أعتاب مرحلة جديدة في عالم الاستثمار العقاري، حيث تتغير مراكز الثقل، وتبرز قوى جديدة تسعى لفرض بصمتها على الخارطة العالمية؟ الأيام القادمة وحدها كفيلة بكشف الإجابة.