حكايات “التوكيلات” وسعي وزارة الإسكان نحو الشفافية: هل انتهى زمن التعقيدات؟
كم مرة سمعنا حكايات عن تعقيدات إجراءات نقل الملكية العقارية؟ كم عانى مواطنون لسنوات طويلة في متاهة التوثيق والرسوم الباهظة، وهم يحملون بين أيديهم “توكيلات” لا تمنحهم الراحة التامة ولا تضمن حقوقهم بالكامل؟ تلك المشكلة المستمرة، التي كادت أن تتحول إلى جزء أصيل من واقع التعاملات العقارية، يبدو أنها في طريقها للحل بفضل تحركات جديدة من وزارة الإسكان. ففي خطوة تُوصف بالجريئة والشفافة، أصدرت الوزارة حزمة قرارات تهدف بالأساس إلى تبسيط عملية التنازل عن الوحدات والأراضي وتقنين أوضاع المواطنين، رافعة شعار “التيسير لا التكسب”.
لقد كانت الأوضاع سابقاً، بصراحة، عبئاً حقيقياً. دعونا نتخيل: شخص اشترى وحدة سكنية أو قطعة أرض بموجب توكيل، وانتظر لسنوات لإتمام الإجراءات الرسمية، ليجد نفسه أمام رسوم إدارية قد تصل إلى 2 أو 5% من قيمة العقار! مبلغ ليس بالهين، أليس كذلك؟ هذا الوضع خلق حالة من التردد وعدم اليقين، ودفع الكثيرين لتأجيل استكمال التسجيل الرسمي، ما ترك آلاف الملكيات معلقة في مساحة رمادية لا هي ملكية تامة ولا هي خارج نطاق التزاماتهم. هنا يأتي دور هذه القرارات، لتضيء الطريق وتزيل بعضاً من هذا الضباب.
المهندس عمرو خطاب، المتحدث الرسمي باسم وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، خرج ليؤكد، خلال مداخلة تلفزيونية مع الإعلامي أحمد سالم في برنامج “كلمة أخيرة” على قناة ON، أن جوهر هذه القرارات ليس تحقيق أي مكاسب مالية للوزارة. بل على العكس تماماً، هي تستهدف “تسهيل الإجراءات وتقنين أوضاع المواطنين”. وكأنه يقول لنا: “يا جماعة، إحنا هنا عشان نسهل عليكم، مش عشان نصعبها زيادة!” وهذا التصريح، بصراحته ووضوحه، جاء ليرد على أي تساؤلات أو مخاوف قد تكون راودت البعض حول الدوافع الحقيقية لهذه الخطوات.
ولعل أبرز ما جاء في هذه القرارات هو التخفيض الكبير للرسوم الإدارية. تخيلوا معي، بعد أن كانت هذه الرسوم تتراوح بين 2 و5% – وهو مبلغ، كما أشرنا، كان يمثل حملاً ثقيلاً على كاهل المواطن – قامت هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة بتخفيضها بشكل ملحوظ. لم يتم الإفصاح عن نسبة محددة جديدة، لكن المؤكد أنها لم تعد ذلك الحاجز المنيع الذي كان يمنع الناس من إتمام معاملاتهم. هل هذا يعني نهاية حقبة الرسوم المرتفعة التي كانت تستنزف جزءاً كبيراً من مدخرات المتعاملين؟ نأمل ذلك، ويبدو أن المؤشرات الأولى تشير إلى هذا الاتجاه.
لم تكتفِ الوزارة بتخفيض الرسوم فحسب، بل منحت أيضاً مهلة سخية للمواطنين. فالقرار الجديد يتيح للحاجزين ستة أشهر كاملة لتقديم طلباتهم إلى أجهزة المدن المختصة. ستة أشهر هي فرصة ذهبية لاستكمال إجراءات التنازل عن الوحدات السكنية، أو حتى المهنية والإدارية والمحال التجارية. وهذا يعني أن كل من يحمل “توكيلاً نهائياً” يتمتع بصلاحية “البيع والتنازل للنفس وللغير” بات مخولاً بإتمام هذه الإجراءات دون تعقيدات إضافية. يعني من الآخر كده، لو معاك توكيل سليم، الفترة دي فرصتك تنهي كل حاجة وتأمن مستقبلك ومستقبل أسرتك.
لكن لماذا كل هذا الجهد؟ لماذا كل هذا التيسير؟ يجيب المهندس عمرو خطاب عن هذا السؤال بوضوح تام، مشدداً على أن الهدف الأسمى من هذه المبادرة هو بناء “قاعدة بيانات دقيقة لحصر الملكيات”. هل تتخيلون أهمية وجود قاعدة بيانات واضحة وشاملة للملكيات العقارية في أي دولة؟ إنها حجر الزاوية لأي تخطيط تنموي سليم، ولأي رؤية مستقبلية لقطاع الإسكان. كما أنها تساهم في مكافحة البناء العشوائي، وتحد من النزاعات القضائية المتعلقة بالملكية. هو يؤكد أن الوزارة لو كان هدفها جمع الأموال، لكانت فرضت شروطاً صارمة على غير المسددين، لكن هذا ليس محور الاهتمام حالياً.
وفي سياق متصل، حرص متحدث الإسكان على الفصل بين اختصاصات وزارته ووزارة المالية فيما يتعلق بـ”ضريبة التصرفات العقارية”. أوضح خطاب أن هذه الضريبة تقع ضمن اختصاصات وزارة المالية، وأن المالك النهائي للعقار – بعد إتمام كافة إجراءات التنازل – هو المسؤول عن سدادها. وهذا التوضيح مهم جداً لتجنب أي لبس أو خلط بين الرسوم الإدارية التي خفضتها وزارة الإسكان، وبين الضريبة السيادية التي تفرضها وزارة المالية. فكل وزارة لها مهامها واختصاصاتها، والفهم الواضح لذلك يجنب الكثير من سوء الفهم بين المواطنين.
في المحصلة، تسعى وزارة الإسكان من خلال هذه القرارات إلى تحقيق مجموعة من الأهداف المتكاملة: تعزيز الشفافية في التعاملات العقارية، تسهيل الإجراءات على المواطنين بما يرفع عنهم الأعباء، وضمان تقنين أوضاع الوحدات والأراضي بشكل يخدم المصلحة العامة للبلاد. هذه ليست مجرد قرارات إدارية عابرة، بل هي جزء من رؤية أوسع تهدف إلى تنظيم سوق العقارات المصري، وجعله أكثر جاذبية وثقة للمستثمرين والمواطنين على حد سواء. فهل نشهد بداية عصر جديد للتعاملات العقارية في مصر، عصر يتميز بالوضوح واليسر، ويضع المواطن ومصالحه في صميم أولوياته؟ كل المؤشرات تبدو واعدة، والأيام القادمة ستكشف لنا مدى عمق هذا التحول وأثره على حياة الملايين.