في مدينة لا تنام، حيث تتراقص أبراج المال والسلطة على إيقاع الصفقات الكبرى، يدور صراع انتخابي قد يعيد تعريف شكل الحكم في نيويورك. هل يمكن لشاب في الثالثة والثلاثين من عمره، بأفكاره “الراديكالية” أن يقلب الطاولة على أقطاب المال والعقار الذين اعتادوا تسيير الأمور في الخفاء والعلن؟ سؤال بات يتردد على ألسنة الجميع، بينما تشهد المدينة معركة شرسة بين تطلعات التغيير وقوة رأس المال، صراع يذكرنا بـ “داوود وجالوت” لكن هذه المرة في قلب مانهاتن.

زهران ممداني، اسم ربما لم يكن مألوفًا للكثيرين قبل عام مضى، يجد نفسه اليوم على رأس قائمة المرشحين الأوفر حظًا لمنصب عمدة نيويورك. كشفت صحيفة الغارديان، في مقال للصحفي آدم غابات، عن رحلة هذا الشاب الذي تجاوز تحديات جمة. فبعمره الصغير وخبرته المحدودة واشتراكيته الديمقراطية التي يصفها البعض بـ”المزعومة”، كان من الممكن أن تُعيق هذه العوامل حملته بسهولة. لكن ممداني، الذي كان مجهولًا نسبيًا قبل 12 شهرًا، قفز فوق هذه العقبات ليصبح المرشح الأوفر حظًا للفوز في انتخابات نوفمبر المقبلة. هو لم يكتفِ بالدعوة للتغيير فحسب، بل قدم حلولًا ملموسة لاقت صدى واسعًا لدى الشارع النيويوركي، لكنها في المقابل، أثارت فزعًا عميقًا في دوائر النفوذ والثراء.

تخيل يا صاحبي، واحد زي ممداني، طالع يقوللك بوضوح إن لازم نجمّد أسعار الإيجارات، وهنرفع الضرايب شوية صغيرة بس على أغنى 1% من سكان نيويورك. طبعًا، الكلام ده نزل زي الصاعقة على المانحين الديمقراطيين التقليديين وأباطرة العقارات اللي بيعتبروا نفسهم أصحاب المدينة وأهلها الحقيقيين. ناس كتير ابتدت تقول: “إيه ده؟ هو فيه إيه بالظبط؟” وهذا الخطاب لم يكن مجرد وعود انتخابية عابرة؛ بل كان بمثابة قنبلة انفجرت في أروقة السلطة المالية والعقارية في المدينة. وعشان كده، الأغنياء دول قرروا إنهم لازم يوقفوا ممداني بأي تمن.

هذه الوعود، التي يراها الكثيرون في صالح الطبقة الكادحة والمتوسطة التي تكافح لتغطية نفقات المعيشة في نيويورك باهظة التكاليف، كانت بمثابة إعلان حرب بالنسبة للنخبة. لم يدخروا جهدًا ولا مالًا لإجهاض حملة ممداني. فبعد هزيمته الساحقة لأندرو كومو، حاكم نيويورك السابق، في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي – وهي هزيمة كلف فيها أقطاب العقارات ملايين الدولارات لدعم كومو، وصل إنفاقهم إلى 6 ملايين دولار، منها 250 ألف دولار من رئيس شركة إنشاءات مقرها بوسطن وتخطط للتوسع في نيويورك – لم تستسلم هذه الدوائر. على العكس، زاد إصرارهم على منع ممداني من الوصول إلى مبنى البلدية بأي وسيلة ممكنة.

في الأسابيع الأخيرة، وتحديدًا هذا الشهر، شهدت أروقة نيويورك المالية لقاءات مكثفة. فقد اجتمع بعض من أثرى ملاك العقارات ورجال الأعمال في نيويورك مع كومو، في لقاء وصفته نيويورك تايمز بأنه “تخطيط لطريقه إلى مبنى البلدية”. كان من بين الحاضرين مليارديران على الأقل وأحد أكبر مطوري العقارات بالمدينة، الذين حذروا من ضرورة التوحد لوقف ممداني. الأمر تحول إلى حملة منسقة، هدفها الأسمى هو تحييد أي منافس آخر يمكن أن يشتت أصوات المعارضة لممداني.

بعد أيام قليلة من هذا الاجتماع، دخل على الخط بيل أكرمان، مدير صندوق تحوط وناشط سياسي معروف، تقدر ثروته بنحو 10 مليارات دولار. أكرمان، الذي تبرع للديمقراطيين ودعم دونالد ترامب في انتخابات 2024، دعا إريك آدامز، العمدة الحالي المرشح كمستقل، للانسحاب من السباق لإفساح المجال أمام كومو. تخيل، الدعوات دي بتبين حجم اليأس اللي وصلوا له أصحاب المال والسلطة. أكرمان حذر، مثل غيره من أثرياء نيويورك، من أن مقترح ممداني بفرض ضريبة إضافية 2% على من يزيد دخلهم عن مليون دولار، سيؤدي إلى هجرة الأغنياء من المدينة. وتعهد باستثمار “مئات الملايين من الدولارات” لمنع ممداني، الذي أكتر من 570 ألف شخص صوتوا له في الانتخابات التمهيدية. وقال في يونيو: “هناك مئات الملايين من الدولارات من رأس المال المتاح لدعم منافس لممداني، ويمكن جمعها بين عشية وضحاها”، مضيفاً أنه “منخرط في سلاسل الرسائل النصية ومجموعات واتساب”، في دليل على مدى التنسيق والتعبئة.

لم تتوقف سيول الأموال هنا. فمايكل بلومبرغ، العمدة السابق الملياردير، أنفق وحده 8.3 مليون دولار لدعم كومو خلال الصيف. وقبل أقل من أسبوعين، تبرع رون لاودر، وهو ملياردير جمهوري، بـ 750 ألف دولار للجنة العمل السياسي (سوبر باك) التي تدعم كومو. وفي أغسطس، قدم جون بي هيس، رئيس مؤسسة هيس، تبرعه الثاني بقيمة 500 ألف دولار. بصراحة، الفلوس كانت بتترمي رمي، كل ده عشان يوقفوا مرشح واحد!

لكن يبدو أن هذه الأموال الطائلة لم تُجدِ نفعًا. فممداني لا يزال يتقدم بفارق كبير على منافسيه. أظهر استطلاع رأي حديث أجرته مؤسسة “ماريست” أن ممداني يحصل على 45% من الأصوات، مقابل 24% لكومو، و17% للجمهوري كورتيس سليوا، و9% فقط لآدامز. هذه الأرقام تعكس مدى الإلحاح واليأس الذي يشعر به مؤيدو كومو، ما دفعهم لتكرار الدعوات لسليوا وآدامز للانسحاب. بل إن هناك تقارير تشير إلى تدخل دونالد ترامب ومستشاريه، ومناقشتهم لعرض وظيفة على آدامز إذا ما تنحى عن السباق، محاولة يائسة لتوحيد جبهة المعارضة.

حتى في السيناريو الافتراضي الذي طرحه استطلاع “ماريست” بوجود ممداني وكومو فقط، اختار 49% من سكان نيويورك ممداني مقابل 39% لكومو. هذا يشير بوضوح إلى أن جهود طبقة المليارديرات قد تذهب سدى. يقول سوماثي كومار، المدير الإداري لمجموعة “مستأجري نيويورك” للدفاع عن الإسكان الميسور التكلفة: “منذ الانتخابات التمهيدية، وهم في حالة ذعر وتدافع، بيحاولوا يلاقوا طريقة يهزموا بيها ممداني عشان يحافظوا على أرباحهم. بس يا خسارة، اللي عملوه ده مابينفعش، لأن المستأجرين عايزين تجميد للإيجارات، وعايزين يفضلوا في نيويورك”.

مع اقتراب موعد التصويت المبكر بعد أكثر من شهر بقليل، ويوم الانتخابات في 4 نوفمبر، يجد أثرياء نيويورك أنفسهم أمام حقيقة قد تكون قاسية: المال لا يشتري كل شيء، ولا يملك دائمًا الكلمة الأخيرة. ففي النهاية، صوت الناخب هو الفيصل. كما قالت آنا ماريا أرشيلا، المديرة المشاركة لحزب “عائلات نيويورك العاملة”: “العديد من أصحاب النفوذ والمليارديرات يشعرون بالإحباط والخوف، لأن مطالبهم ليست محور أجندة زهران، ويجدون أنفسهم خارج ‘المكان الذي تحدث فيه الأمور’.” هذا الصراع في نيويورك ليس مجرد سباق على منصب، بل هو تجسيد حي للصراع الأبدي بين قوة رأس المال وتطلعات الشعوب نحو العدالة والتغيير. فهل سيثبت أهل نيويورك أن صوتهم أعلى من رنين الأموال؟ الأيام القادمة ستحمل الإجابة، ولكن المؤشرات الأولية تقول إن التغيير قادم، ربما هذه المرة، وبإرادة الناس.

Leave a Comment

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.