في زمن تتلاطم فيه أمواج التضخم، ويتبدّل فيه المشهد الاقتصادي بوتيرة متسارعة، يبقى السؤال الأزلي يطارد أذهان الكثيرين: أين نودع مدخراتنا لنحميها من التآكل ونضمن لها نموًا مستدامًا؟ هل هناك ملاذ آمن حقًا، أم أن كل استثمار يحمل في طياته قدرًا من المخاطرة؟ وسط هذه الحيرة، يأتي صوت المهندس طارق شكري، رئيس غرفة التطوير العقاري باتحاد الصناعات المصرية، ليقدم إجابة حاسمة، بل وقاطعة: “الاستثمار في القطاع العقاري يُعد خيارًا آمنًا بنسبة 100%”. عبارة جريئة كهذه تستدعي التوقف والتأمل، خصوصًا وأنها جاءت خلال مداخلة هاتفية عبر برنامج “حضرة المواطن”، لترسم صورة وردية لمستقبل الاستثمار العقاري في مصر.

لم يكتفِ شكري بالتأكيد على أمان هذا الاستثمار، بل ذهب أبعد من ذلك ليشدد على استمرارية القطاع في تحقيق أرباح مجزية للمواطنين، مؤكدًا أن الوقت الحالي يمثل “فرصة ذهبية” لكل من يفكر في شراء العقارات. تساؤلات كثيرة قد تدور في أذهاننا الآن: ما الذي يجعل هذه اللحظة تحديدًا فرصة لا تعوض؟ وهل يكفي الأمان والربح لضمان نجاح أي استثمار؟ الأمر لا يخلو من بعض التفاصيل، فالعائدات الاستثمارية في هذا الميدان، كما أوضح شكري، تتطلب “الصبر لسنوات لتحقيق أفضل النتائج”. بمعنى آخر، الموضوع مش بيّات ونبيت؛ هو استثمار طويل الأجل، يحتاج لـ “نفس طويل” عشان تشوف ثماره الحقيقية.

يتفق خبراء الاقتصاد غالبًا على أن العقار يمثل ملاذًا آمنًا في أوقات عدم اليقين، فهو يحافظ على قيمته وقد يزدادها مع الزمن، على عكس الأصول المالية الأخرى التي قد تتقلب أسعارها صعودًا وهبوطًا بشكل مفاجئ. لكن ما يميز رؤية شكري هو تحديده لوقت بعينه كـ “نافذة ذهبية” للشراء، وهو ما يدعو إلى تحليل العوامل التي قد تدعم هذا الرأي. لعلّ تقلبات سعر الصرف الأخيرة، والتوقعات بزيادة تكاليف البناء في المستقبل، تجعل الشراء الآن أكثر جدوى قبل أن ترتفع الأسعار أكثر.

ولكن، كيف تُسعّر هذه الوحدات العقارية؟ هذا سؤال جوهري يطرحه الكثيرون، خاصة مع الارتفاعات المتتالية التي نشهدها. هنا، يفند رئيس غرفة التطوير العقاري المعادلة السعرية بوضوح تام، مبددًا أي تصورات قد تذهب إلى أن الأمر مجرد “تقدير جزافي”. يقول شكري إن تسعير الوحدات العقارية في مصر يعتمد على معادلة واضحة المعالم، تتضمن تجميع دقيق لتكاليف المدخلات الأساسية. فكر معي، الأمر أشبه بـ “وصفة” بناء، لكل مكون فيها ثمنه: الأسمنت، الحديد، الخشب، الألومنيوم، النحاس، وبالطبع، ثمن قطعة الأرض نفسها، وأجور العمال التي شهدت هي الأخرى زيادات ملحوظة، بالإضافة إلى تكلفة الأموال التي يتم استثمارها.

المثير للاهتمام هنا، والذي قد يُفاجئ الكثيرين، هو هامش الربح الذي تضيفه الشركات العقارية. فبعيدًا عن التصورات الشائعة التي تتخيل أرباحًا فلكية، أكد شكري أن هذا الهامش يتراوح “بين 5% و10% فقط” على تكلفة الوحدة. هذا الرقم، إن صح، يضع القطاع في خانة القطاعات ذات الربحية المعقولة، بل وربما المتواضعة مقارنة بمخاطر وطول دورة رأس المال المستثمر. وهذا يفتح الباب أمام تساؤل آخر: إذا كانت الأرباح ليست خرافية، وإذا كان العقار آمنًا، فلماذا لا يزال حلم امتلاك منزل يراود الكثيرين ويصعب تحقيقه على أرض الواقع؟

هنا يأتي مربط الفرس، ونقطة الضعف الأكبر في القطاع، والتي يراها شكري “المشكلة الرئيسية”: غياب نظام تمويل عقاري رسمي بفوائد منخفضة لا تتجاوز 3% لجميع الوحدات. تخيل معي، 97% من تمويل العقارات في مصر يعتمد على “أموال المواطنين” مباشرة. هل هذا طبيعي؟ هل يعقل أن يكون هذا هو الوضع الأمثل لقطاع حيوي كهذا، يمس حياة الملايين ويشكل ركيزة أساسية في الاقتصاد الوطني؟ غياب التمويل العقاري الفعال يعني أن الشركات العقارية تجد نفسها مضطرة للعب دور “مؤسسات التمويل”. نعم، المطور العقاري، الذي ينصب عمله الأساسي على البناء والتشييد، يصبح بنكًا صغيرًا، يقدم أنظمة سداد ممتدة بفوائد بنكية، لتسهيل عملية الشراء على المواطنين.

هذا الوضع، بطبيعة الحال، يزيد من التحديات أمام المطورين والمواطنين على حد سواء. المطورون يتحملون أعباءً مالية وإدارية ليست من صميم عملهم، والمواطنون يدفعون أسعارًا أعلى نتيجة لفوائد هذه التسهيلات، أو يجدون صعوبة بالغة في توفير السيولة اللازمة للشراء. لهذا السبب، لم يدخر شكري جهدًا في دعوة صريحة وواضحة إلى “ضرورة تطوير نظام تمويل عقاري رسمي يدعم القطاع ويعزز قدرة المواطنين على الشراء”. هو بيتكلم في حل جذري للمشكلة، مش مسكنات.

في النهاية، يبدو أن الصورة ليست بالبساطة التي قد تبدو عليها للوهلة الأولى. فالاستثمار العقاري، وإن كان آمنًا ومربحًا على المدى الطويل كما يؤكد الخبراء، يواجه تحديات هيكلية عميقة. دعوة المهندس طارق شكري هي في جوهرها دعوة لإعادة النظر في طريقة عمل هذا القطاع الحيوي. فهل يمكننا، كمجتمع، أن نحلم ببيوت بأسعار معقولة، وبآليات تمويل تسهل على الشباب والعائلات امتلاك مسكنهم الخاص دون عناء؟ الأمر لا يتعلق فقط بأرقام وأرباح، بل هو مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالاستقرار الاجتماعي، وبتحقيق حلم السكن الكريم الذي هو حق أساسي لكل مواطن. فإذا أردنا أن يستمر القطاع العقاري قاطرة للنمو الاقتصادي، وأن يكون بالفعل “الملاذ الآمن 100%”، فلابد أن تتضافر الجهود لإيجاد حلول تمويلية مبتكرة ومستدامة، ترفع الأعباء عن كاهل الأفراد وتفتح آفاقًا أوسع للجميع. هذا هو التحدي الحقيقي، وهذا هو السؤال الذي يتطلب منا جميعًا التفكير فيه بعمق.

Leave a Comment

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.