تتراقص أضواء الأبراج الشاهقة على أرض المحروسة، لتُلقي بظلالها على واقع اقتصادي مزدهر، يحكي قصة قطاع عقاري ليس مجرد “طوب وأسمنت”، بل قلب نابض يدفع عجلة التنمية في مصر. فهل يمكننا حقاً أن نتخيل حجم الطفرة الهائلة التي يشهدها هذا القطاع، والتي لا تتوقف عند حدود البناء، بل تمتد لتشمل فرص عمل بملايين الأيادي العاملة والعقول المبدعة؟
في خضم هذا المشهد المتسارع، يؤكد الدكتور وليد سويدة، رئيس لجنة الاستشارات الهندسية بجمعية رجال الأعمال المصريين، أن السوق العقاري في مصر يمثل كنزا حقيقيا للمستثمرين وشركات الاستشارات الهندسية على حد سواء. فالفرص تتوالى في كل مراحل المشاريع، بدءا من التصميم المبتكر، مروراً بالإشراف الدقيق، وصولاً إلى التنفيذ المتقن. هذه رؤية لا تقتصر على التفاؤل، بل تستند إلى حقائق وأرقام تؤكد مكانة هذا القطاع المحورية.
تخيل معي أن قطاعاً واحداً فقط يساهم بما يتراوح بين 25 إلى 30% من إجمالي الناتج المحلي في بلد بحجم مصر! هذه ليست مجرد نسبة عابرة، بل هي الأكبر على الإطلاق مقارنة بجميع القطاعات الاقتصادية الأخرى. يعني إيه الكلام ده؟ يعني، ببساطة، إن العقارات هي الداعم الأساسي لنمو اقتصادنا. ولا يقتصر تأثيره على الأرقام الكلية؛ فالملايين من شبابنا، من مهندسين وفنيين وعمال، يجدون فيه مصدر رزقهم ومستقبلهم. إنه ليس مجرد اقتصاد، بل هو عصب الحياة لملايين الأسر المصرية.
ولم يأت هذا التقييم من فراغ، فتقرير حديث صادر عن مؤسسة “نايت فرانك” المرموقة، أشار إلى أن مصر تحتل المرتبة الثالثة كأكبر سوق للإنشاءات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. هذا المركز المتقدم ليس مجرد لقب، بل هو ترجمة لقيمة مشاريع ضخمة قيد التنفيذ، تُقدر بنحو 120 مليار دولار. ولكن القصة لا تتوقف هنا؛ فالآتي أعظم، حيث تبلغ قيمة المشاريع المستقبلية المخطط لها نحو 565 مليار دولار! هل يمكنك أن تستوعب هذا الرقم الهائل؟
الأدهى أن 51% من هذه المشاريع المستقبلية لا تزال في مرحلة الدراسة والتخطيط، بينما 39% منها قيد التصميم. وهذا يعني فرصاً غير مسبوقة، بل ضخمة، لخدمات ما قبل الإنشاءات، في مجالات التخطيط الاستراتيجي ودراسات الجدوى الاقتصادية. إنها فترة ذهبية لمن يمتلك الرؤية والخبرة في هذه المجالات.
ويتوقف الدكتور سويدة ليشرح لنا العوامل الأساسية التي تدعم هذه الطفرة غير المسبوقة. أهمها المحفظة الضخمة من المشاريع التي ما زالت تنتظر التنفيذ، والتي لم يتم إسنادها بعد. أضف إلى ذلك التنوع المذهل في قطاعات الإنشاءات؛ فلا يقتصر الأمر على الوحدات السكنية فحسب، بل يمتد ليشمل المشاريع التجارية والفندقية، والمشروعات متعددة الاستخدامات، وصولاً إلى مشاريع البنية التحتية العملاقة. ولا ننسى الاهتمام المتزايد بالقطاعات الصناعية الحيوية، وخاصة مصانع الأدوية والصناعات الغذائية، التي أصبحت ضرورة ملحة.
وهذه العوامل مجتمعة، دفعت بالسوق العقاري المصري ليصبح نقطة جذب لا تُقاوم للمطورين والمستثمرين، سواء كانوا مصريين أو خليجيين. والملاحظ أن الاهتمام يتجه بشكل كبير نحو مشروعات المدن الجديدة، والساحل الشمالي الذي أصبح قبلة للمصيفين والمستثمرين على حد سواء. ولا تزال العاصمة الإدارية الجديدة، والتجمع الخامس، وأكتوبر الجديدة، في صدارة اهتمامات الجميع، مع توجه ملحوظ نحو مناطق البحر الأحمر الواعدة. يعني، السوق مش بيقف عند منطقة واحدة، ده بيتوسع وبيتنوع بشكل مستمر.
نتيجة لكل هذه المتغيرات الإيجابية، يتوقع الدكتور سويدة أن يشهد السوق العقاري قفزة نوعية في النمو والتطور خلال الفترة القادمة. هذا يعني المزيد من الفرص الاستثمارية القوية، التي ستمنح شركات الاستشارات والمقاولات المحلية دفعة هائلة، وتزيد من حجم أعمالها بوتيرة أسرع بكثير مما شهدناه في السنوات الماضية.
ما الذي يجعل هذا النمو متوقعا بثقة كهذه؟ يعيد رئيس لجنة الاستشارات الهندسية هذا التوقع إلى حقيقة أساسية: السوق العقاري المصري من الأسواق المستقرة. إنه سوق يتميز بطلب حقيقي وثابت على العقارات، سواء لأغراض السكن أو الاستثمار، بالإضافة إلى الطلب المتغير. بمعنى آخر، الناس هنا محتاجة سكن، وكمان شايفة في العقار ده أمان للمستقبل.
ويشدد الدكتور سويدة على أن العقار، في أي ظروف وتحت أي متغيرات اقتصادية، يظل الخيار الأنسب والأكثر ربحية للمستثمرين. حتى في أسوأ حالاته، فإنه يحقق ثباتاً واستقراراً في الأسعار، ولا يتراجع أبداً. أضف إلى ذلك ثقافة المصريين الراسخة في تملك العقار؛ فالبيت أو الأرض ليست مجرد سلعة، بل هي جزء من الأمن الاجتماعي والاقتصادي للفرد والأسرة. وهذه العقيدة المتأصلة تعطي انطباعاً إيجابياً جداً لفرص الاستثمار في العقارات على المدى البعيد.
وفي قلب هذه الطفرة الإنشائية، تقف شركات الاستشارات الهندسية المصرية كأحد أكبر المستفيدين. ليس فقط على المستوى المحلي، بل تعدى الأمر ذلك إلى تصدير خبراتها وخدماتها خارج مصر. وهذا بفضل عملها على مشاريع عملاقة لأكثر من عشر سنوات، مشاريع بنيت وشيدت بأيدي مصرية بنسبة تتجاوز 95%. إن السوق المصرية، بخلاف العديد من الدول العربية، تعتمد بشكل كبير على شركات الاستشارات الهندسية المصرية والمهندسين الاستشاريين، أكثر من الشركات الأجنبية. هذه شهادة على الكفاءة والاحترافية المحلية.
ولا تتوقف مساهمة شركات الاستشارات الهندسية المصرية عند حدود الوطن، بل تمتد لتشمل الطفرة الإنشائية في دول الخليج العربي. إن للشركات المصرية دوراً قوياً وفاعلاً في المشاريع العقارية وسوق الإنشاءات في كافة الدول العربية، من السعودية وعمان والإمارات إلى العراق والكويت. هذه الشركات تتمتع بصدى واسع وخبرات عميقة في المشاريع العملاقة، سواء في التصميم أو التنفيذ أو الإشراف. وهذا يمنحها السبق والأفضلية في التواجد والمنافسة، ليس فقط عربياً، ولكن أيضاً داخل السوق العقاري المصري، على تنفيذ مختلف المشروعات في قطاع الإنشاءات والتطوير العقاري.
فهل نحن أمام مرحلة ذهبية للعقار المصري؟ وهل ستستمر هذه الأيدي المصرية الماهرة في رسم ملامح المستقبل، هنا وفي المنطقة؟ كل المؤشرات تؤكد أن الإجابة هي نعم مدوية. إنها قصة نجاح تتطلب منا جميعاً، كمواطنين وكمستثمرين، أن ندرك حجم الفرص وأن نثق في قدرة هذا القطاع على تحقيق المزيد من الرخاء والازدهار لمصر وشبابها.