تخيل عالماً موازياً حيث المال يتداول بحرية مطلقة، خارج أسوار البنوك وقيود الحكومات. عالم يفتقر للعملة المادية أو حتى الرقم التسلسلي، لكنه يحمل قيمة حقيقية في جيوب آلاف الأفراد. هذا ليس محض خيال علمي، بل هو واقع معيش في المغرب، حيث أحدثت العملات المشفرة ضجة كبيرة، أجبرت السلطات على إعادة تقييم موقفها الصارم تجاهها. فبعد سنوات من الحظر التام، يبدو أن المملكة تقترب من خطوة تاريخية قد تعيد تعريف مفهوم المال والاقتصاد الرقمي على أراضيها.
ففي تطور لافت ينم عن تحول جذري في التفكير، أعلن محافظ البنك المركزي المغربي، عبد اللطيف الجواهري، يوم الثلاثاء الماضي، عن خطوة محورية. جاء هذا الإعلان عقب اجتماع لمجلس إدارة البنك في العاصمة الرباط، حيث كشف الجواهري أن البنك قد حث الحكومة المغربية على تسريع وتيرة الترخيص للعملات المشفرة، وذلك من خلال إقرار قانون خاص ينظم تداولها واستخدامها. هذه الدعوة الصريحة لا تأتي من فراغ؛ بل هي ثمرة جهد مكثف استمر طويلاً في كواليس المؤسسة المالية الأبرز في البلاد.
“بصراحة كده، احنا خلصنا شغلنا على مشروع القانون ده”، هكذا قال الجواهري موضحاً بلهجة توحي بالجدية والإنجاز. المشروع المتعلق بالنقود الرقمية بات جاهزاً الآن، و”بين يدي الأمانة العامة للحكومة”. وهذا بحد ذاته يمثل نقطة تحول كبرى، فهو يؤشر إلى أن البنك المركزي لم يعد يتعامل مع العملات المشفرة كمجرد ظاهرة عابرة أو خطراً داهماً يجب اجتنابه، بل ككيان اقتصادي رقمي يتطلب إطاراً قانونياً واضحاً. والطلب كان واضحاً: “طلبنا من الأمانة العامة للحكومة اعتبار المشروع من الأولويات وإحالته على البرلمان للمصادقة عليه”. لماذا كل هذه العجلة؟ الأمر لا يتعلق برفاهية التنظيم، بل بضرورة ملحة تفرضها حقائق على الأرض.
السبب الجوهري لهذا الإلحاح يتلخص في مؤشرات واضحة لا يمكن تجاهلها تتعلق بالاستعمال المتزايد للمغاربة لهذه العملات الرقمية. فرغم أن المغرب حظر تداول العملات الرقمية منذ عام 2017، إلا أن هذا الحظر لم يمنع انتشارها. هل يمكن أن نمنع شروق الشمس؟ بالطبع لا. فالواقع أن آلاف المغاربة، من شباب مستكشف للفرص الجديدة إلى مستثمرين يبحثون عن بدائل، وجدوا طرقاً للتحايل على القيود المفروضة واستخدام هذه العملات بشكل غير رسمي. هذه الظاهرة لم تعد هامشية؛ بل أصبحت جزءاً من المشهد الاقتصادي الرقمي في البلاد، وتتطلب استجابة عملية ومنظمة.
لكن ما الذي دفع البنك المركزي لتغيير موقفه الجذري من الحظر إلى التنظيم؟ الأمر ليس قراراً ارتجالياً. أوضح الجواهري أن “مشروع القانون لتقنين العملات الرقمية لم نشتغل عليه وحدنا، ولكن بدعم من البنك وصندوق النقد الدوليين”. تخيل أن أكبر مؤسستين ماليتين عالميتين تضعان ثقلهما خلف هذا التوجه! وهذا يؤكد أن الخطوة المغربية ليست بمعزل عن التوجهات العالمية. فقد أخذ البنك المركزي بعين الاعتبار “التجارب الدولية” في هذا المجال، وأيضاً “توصيات مجموعة العشرين”، التي تضم أكبر الاقتصادات في العالم. هذا يعني أن المغرب يسترشد بخبرات من سبقوه في هذا المضمار، ويسعى لبناء نظام متين يتجنب الأخطاء ويتعلم من النجاحات.
المخاوف الاقتصادية هي المحرك الأساسي وراء هذا التحول. فالمغرب، كأي دولة تحرص على استقرارها المالي، يخشى على اقتصاده وعملته المحلية من التداعيات السلبية لتجارة العملات الافتراضية غير المنظمة. التحدي الأكبر يكمن في “خروج النقد الأجنبي” عبر هذه المعاملات، وهو ما قد يؤدي في مرحلة من المراحل إلى خفض معروض النقد الأجنبي في البلاد، وهذا بدوره يمكن أن يؤثر سلباً على قيمة الدرهم المغربي وعلى استيراد السلع الأساسية. ففي النهاية، العملات الافتراضية هذه، على عكس نظيراتها التقليدية، لا تملك رقماً متسلسلاً، ولا تخضع لسيطرة الحكومات والبنوك المركزية، بل يتم التعامل بها فقط عبر شبكة الإنترنت دون أي وجود فيزيائي ملموس. هي أشبه بروح رقمية تسبح في الفضاء الإلكتروني، مما يجعل مراقبتها وتتبعها أمراً معقداً للغاية.
“الأهم بالنسبة لنا، هو أن يرى الإطار التشريعي النور في أقرب وقت”، كانت هذه كلمات الجواهري التي تلخص العجلة والإصرار على المضي قدماً. فالتأخير في تنظيم هذا القطاع المتنامي يعني المزيد من المخاطر والخسائر المحتملة، سواء على صعيد الاقتصاد الكلي أو على صعيد الأفراد الذين يتعاملون في هذا السوق دون حماية قانونية. هل من المعقول أن نترك الناس يتخبطون في منطقة رمادية، معرضين للاستغلال والنصب، بينما يمكننا توفير بيئة آمنة ومنظمة؟
إن قرار المغرب هذا، بتوجهه نحو تنظيم العملات المشفرة بدلاً من حظرها المطلق، يحمل في طياته دلالات عميقة. إنه يعكس إدراكاً متزايداً بأن الابتكار المالي الرقمي هو جزء لا يتجزأ من المستقبل، وأنه لا يمكن دفنه تحت رمال الحظر إلى الأبد. فهل سيتمكن الإطار التشريعي الجديد من تحقيق التوازن المطلوب بين تشجيع الابتكار وحماية الاستقرار الاقتصادي؟ وهل ستفتح هذه الخطوة الباب أمام المغرب ليصبح رائداً في هذا المجال في المنطقة؟ هذه الأسئلة تظل معلقة، لكن المؤكد أن البوصلة قد تغير اتجاهها، والمملكة تستعد لرحلة جديدة في بحر الاقتصاد الرقمي المتلاطم، على أمل أن تصل بسلام إلى شاطئ التنظيم والازدهار.