عندما تتجاوز العملات الرقمية اقتصاد الهند: هل نشهد ميلاد عملاق مالي جديد؟
هل تخيلت يوماً أن كياناً افتراضياً، لم يكن له وجود قبل بضع سنوات، يمكن أن يتفوق في حجمه على اقتصادات دول عريقة تُعدّ من أعمدة العالم؟ هذا ما يحدث بالضبط في فضاء العملات الرقمية، الذي لم يعد مجرد “فقاعة” يتحدث عنها المطلعون، بل بات قوة اقتصادية هائلة تتسابق لتأخذ مكانها بين الكبار. لقد تجاوزت القيمة السوقية الإجمالية لهذه العملات حاجز الـ 3.88 تريليون دولار أمريكي، في قفزة نوعية أذهلت الكثيرين ودفعت بالمحللين لإعادة تقييم كل ما ظنوه عن مستقبل المال.
دعنا نضع هذا الرقم الهائل في سياقه الحقيقي ليتضح المشهد أكثر. تخيل أن سوق العملات الرقمية أصبح اليوم أكبر من الاقتصاد الهندي بأكمله، والذي يُقدر بنحو 3.57 تريليون دولار. يعني بالبلدي كده، الفلوس اللي في العملات الرقمية أكتر من كل الفلوس اللي بتدور في بلد بحجم وقوة الهند! ليس هذا فحسب، بل يضعها هذا التوسع الصاروخي مباشرة خلف اقتصادات عمالقة مثل ألمانيا (4.53 تريليون دولار) واليابان (4.20 تريليون دولار). أليست هذه مقارنة مُذهلة حقاً؟ وكأننا نتحدث عن دولة رقمية عملاقة وُلدت للتو، وتزاحم الكبار على المقاعد الأمامية في الاقتصاد العالمي.
ولم يكن هذا الإنجاز وليد الصدفة أو مجرد زيادة طفيفة؛ بل هو نتاج نمو جنوني بكل ما للكلمة من معنى. فالقيمة السوقية لهذه العملات تضاعفت بالكامل خلال عام 2024 وحده. وإذا عدنا بالذاكرة قليلاً إلى عام 2023، لوجدنا أن السوق قفز بأكثر من ثلاثة أضعاف مقارنة بذلك العام. أما إذا كانت نظرتنا أبعد قليلاً، أي خلال السنوات الخمس الماضية فقط، فالنمو يصل إلى عشرة أضعاف ما كان عليه. هذه ليست مجرد أرقام، بل هي طفرة تاريخية تعيد رسم ملامح الاستثمار والمستقبل المالي. ألم يقل أحدهم ذات مرة أن التكنولوجيا تتطور أضعافاً مضاعفة؟ يبدو أن العملات الرقمية أخذت هذه القاعدة بحذافيرها وطبقتها على نفسها.
التوسع لم يتوقف عند المقارنة بالهند فحسب. إذا ألقينا نظرة على اقتصادات أخرى، سنجد أن حجم سوق العملات الرقمية يتفوق بنحو 80% على دول كبرى مثل إيطاليا والبرازيل وكندا وروسيا. وإذا بحثت عن أمثلة أخرى، ستجد أنه يعادل ضعف اقتصادات بلدان مهمة مثل كوريا الجنوبية أو أستراليا أو إسبانيا. بل ويتجاوز بأضعاف مضاعفة اقتصادات مثل سويسرا وبولندا، التي تُعرف بقوتها المالية واستقرارها. هل هذا يعني أننا على وشك رؤية تحول جذري في مفهوم القوة الاقتصادية؟ ربما.
وعلى صعيد أسواق الأسهم التقليدية، فقد نجحت العملات الرقمية في تجاوز بورصتي لندن وتورنتو الشهيرتين. هذه نقطة مهمة جداً، فهي تشير إلى أن الأموال الضخمة بدأت تتدفق خارج القنوات الاستثمارية التقليدية وتتجه نحو هذا الفضاء الجديد. لكن دعونا لا نغالي في التفاؤل، فالطريق ما زال طويلاً أمامها لتنافس عمالقة مثل بورصة نيويورك، التي تتجاوز قيمتها 25 تريليون دولار. يعني لسه بدري عليها شوية عشان توصل للمستوى ده، بس مين عارف بكرة مخبي إيه؟
لكن خلف هذا البريق والأرقام المبهرة، هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها: التركيز الشديد للقيمة. فعلى الرغم من أننا نتحدث عن آلاف العملات والرموز الرقمية المتداولة، إلا أن أكثر من 90% من القيمة السوقية الإجمالية يسيطر عليها عدد محدود جداً من العملات، وتحديداً أكبر عشر عملات فقط. هذا يعني أن الغالبية العظمى من العملات الأخرى، والتي تُقدر بالآلاف، ليس لها سوى تأثير محدود للغاية، وكثيراً ما يجري تداولها بأقل من دولار واحد للعملة الواحدة. هل هذا يعكس سوقاً صحياً؟ أم أنه أشبه بالهرم الذي تتركز الثروة في قمته الضيقة، بينما القاعدة العريضة تعاني من التهميش؟ هذا التوزيع غير المتوازن يلقي بظلاله على طبيعة السوق ويجعله عرضة للمخاطر بشكل أكبر.
ما الذي يقف وراء هذا التطور السريع والمذهل؟ يمكن إرجاع ذلك إلى عدة عوامل متضافرة. أولاً، دخول المستثمرين المؤسسيين بشكل مكثف، من صناديق استثمار وبنوك وشركات كبرى، ما أضفى شرعية وثقلاً على السوق لم يكن موجوداً من قبل. ثانياً، التحرك المتزايد على صعيد التشريعات والقوانين، حيث بدأت الحكومات في محاولة تنظيم هذا الفضاء الغامض، مما يمنح المستثمرين بعض الطمأنينة، وإن كان ببطء شديد. وثالثاً، استمرار التقلبات العالية التي، وإن كانت محفوفة بالمخاطر، إلا أنها أيضاً تجذب المضاربين الباحثين عن فرص الربح السريع.
في الختام، يبدو أننا نقف على أعتاب مرحلة جديدة تماماً في تاريخ المال. لقد وصل قطاع العملات الرقمية إلى مستوى عالمي من حيث الحجم والتأثير، ولم يعد من الممكن تجاهله. إنه يتحدى المفاهيم التقليدية للاقتصاد والتمويل، ويدفعنا للتساؤل: هل العملات الرقمية هي المستقبل الذي طالما تحدثنا عنه؟ أم أنها فقاعة ضخمة تنتظر الانفجار، كما يزعم المتشائمون؟ الحقيقة، يا صاحبي، أنها ما تزال تعيش مرحلة انتقالية محفوفة بالفرص الهائلة والمخاطر الجمّة. فبينما يرى البعض فيها خلاصاً اقتصادياً وتحريراً مالياً، يحذر آخرون من تقلباتها الحادة واحتمال انهيارها. فهل أنت مستعد لمواجهة هذا العالم الجديد المثير والمربك في آن واحد؟ الإجابة على هذا السؤال قد تحدد الكثير من ملامح المشهد الاقتصادي لعقود قادمة.